من داخل غرفته الصغيرة بمنطقة الصفطاوي شمال مدينة غزة يحلق اللاجئ الفلسطيني من بلدة إسدود المحتلة (محمد جحلش 40 عاماً) في عالم الفن، مستخدماً الألوان والفرشاة وأدوات بسيطة، ليحول علب سمك السردين إلى لوحات تروي حكايات اللاجئين الفلسطينيين في قطاع غزة، وباقي أماكن اللجوء.
وإذ تختلف اللوحات التي يرسمها جحلش عن باقي اللوحات الفنية، فهو لا يرسم على الخشب، والزجاج، والقماش أو حتى على الجدران، بل على علب السردين الفارغة التي تعد من ضمن مساعدات يحصل عليها اللاجئون الفلسطينيون من وكالة "أونروا" فهي رسالة ضمنية يعبر من خلالها عن فكرته فيقول: إنها تشبه مخيمات غزة التي يعيش فيه اللاجئ الفلسطيني، فهي مغلق من كل الاتجاهات، وضيقة جداً ومتلاصقة، تملأ بيوتها الرطوبة، وهي فقيرة جداً كعلب السردين هذه التي يعد ما تحتويه طعاماً أساسياً لسكانها الفقرا، يحصلون عليه من المساعدات.
يقضي محمد الذي يعمل مدرس فنون جميلة ساعات طويلة في إحدى غرف منزله المخصصة للرسم، ليستحضر معاناة اللاجئين المتعددة، ويبدأ برسمها على علب السردين الفارغة، يجسد من خلالها عدة قضايا إنسانية مثل المرض والعلاج والتعليم ومعاناة صيادين الأسماك والحصار ومعاناة الأطفال والفقر غيرها من أشكال بؤس اللاجئ الفلسطيني في غزة.
تشبه الواقع الذي نعيش به.. مغلق من كافة الجهات
يقول محمد لـ"بوابة اللاجئين الفلسطينيين" : "كنت أبحث عن فكرة فنية معينة لتسليط الضوء على معاناة اللاجئين الفلسطينيين، ولفت انتباه العالم الخارجي لها، فاخترت رمزية علبة السردين لأنها تشبه الواقع الذي نعيش به، "مغلق من جميع الجهات، ولا نمتلك مطارات والحدود تحيط بنا من جميع الإتجاهات"، إضافة إلى أن لها مدلول سيء بالنسبة للاجئين الفلسطينيين لأنهم يحصلون عليها كمساعدات إنسانية، وعندما يشاهدونها يستذكرون اللجوء."
منذ بداية تطبيق فكرته قبل أربعة أشهر استخد حوالي 250 علبة سردين، رسم على كل واحدة حكاية مشكلة أو قضية، مثل ظروف التعليم، الصحة، الفقر، البطالة، والجوانب الثقافية، الحالة النضالية، حرية التنقل، إضافة إلى الأوضاع الاقتصادية المتردية، والقضايا الإنسانية، والكثافة السكانيّة، والحنين إلى الأرض التي هجروا منها منذ 73 عاماً، والعديد من القضايا.
يؤكد أنه رغب في تسليط الضوء على قضية اللاجئين لأنه فنان فلسطيني، ومن واجبه الدفاع عن تلك القضية، والتعريف بالمعاناة التي أعاني منها أنا وكافة اللاجئين، الذين يفتقدون إلى أبسط الحقوق، "فاللاجئ في غزة إن أراد السفر للعلاج خارج المدينة المحاصرة يحتاج إلى تصريح من الاحتلال الإسرائيلي، وربما لا يتمكن من ذلك، ويفارق الحياة قبل أن يُعالج."
المساعدات الإغاثية الدولية لا تنسينا جرحنا الأصيل
ظهرت موهبة الرسم لدى جلحش منذ نعومة أظافره، وكان يرسم على كل شيء يجده أمامه، وحاول تطوير موهبته في مختلف مراحل عمره، حتى التحق بكلية الفنون الجميلة بجامعة الأقصى، وبعد تخرجه من الجامعة عمل مُدرساً في مجال دراسته، ولم يكتف عند هذا الحد، بل إنه يسعى إلى تطوير موهبته الفنية، وتعلم أساليب جديدة ومبتكرة للرسم.
وعن رسالته يقول: إنه بالرغم من المساعدات التي يتلقاها اللاجئ الفلسطيني من وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا"، إلا أنه لا يزال يعاني الويلات، وأن تلك المساعدات لا تنسيه جرحه الأصيل سبب كل ما يعيشه الآن وهي النكبة واللجوء.
إلا أن الفن ورغم مدلولاته الواقعية، يعتبر ترفاً في حياة الغزيين المحاصرين، لذا فإن من أبرز الصعوبات التي تواجه الفنانين في قطاع غزة، وأبرزها عدم الإقبال على شراء واقتناء اللوحات الفنية والرسومات، فالظروف الاقتصادية والسياسية التي يمرون بها، تكاد تكون أقوى من كل محاولات التخطي.
يتمنى جلحش أن تتغير الظروف إلى الأفضل، وأن يعيش الفلسطينيون بكرامة بعيداً عن ظلم وقهر المحتل.
هو يرسم كل هذه الأمنيات والخواطر على علب سردين يحصل على العلب من أصدقائه، ويشتري بعضها من الأسواق، وينزع منها السردين الذي تتبرع به الدول المانحة، ليعبر من خلالها عن القضية الفلسطينية، بالنيابة عن اللاجئين الفلسطينيين في مختلف أماكن توزعهم، وليدين عجز المجتمع الدولي ي عن فعل شيء لإنهاء معاناتهم المستمرة منذ ما يزيد عن سبعة عقود، كما يقول.
ويتمنى جحلش أن تتحول تلك العلب المعدنية الصغيرة إلى مجسمات كبيرة تُعرض في مختلف دول العالم، لتصل القضية الفلسطينية وبخاصة قضية اللاجئين إلى شرائح أوسع في هذا العالم، معتبراً أن ذلك شكلاً من أشكال الكفاح.