ساوباولو-أحمد أبو حسنة

اجتاحت العالم الغربي موجة من التوتر بالغة الشدة، وسمت فترة الأعياد. فقبيل عيد الميلاد، بدأ العالم برفع مستوى التأهب، تحسباً من تنفيذ تهديدات أمنية متوقعة، تلبية للدعوة التي وجهها تنظيم داعش لأنصاره لتنفيذ هجمات عدوانية، تستهدف الحشود والفعاليات الاقتصادية والاجتماعية، أثناء الاحتفالات بعيد الميلاد ورأس السنة.

وفي الوقت الذي لم يفق فيه العالم من هول الصدمة، إثر الاعتداءات الأخيرة والتي كان أبرزها حادثة الدهس التي تبناها داعش في العاصمة الألمانية، قبيل عيد الميلاد. فقد تم تنفيذ اعتداءات إرهابية في غير مكان. لعل أبرزها كان التفجير في اسطنبول، التي شكلت خاصرة رخوة فيما يبدو مقارنة مع  ألمانيا التي جهزت خططاً أمنية متطورة، أو في الولايات المتحدة التي أغلقت كل الطرق المؤدية إلى ساحة تايمز سكوير الأشهر في نيويورك وطبقت إجراءات أمنية مشددة ليلة رأس السنة.

على النقيض من ذلك كله، كان المشهد في البرازيل. لربما بدت البرازيل مطمئنة نتيجة إحساسها بأنها ليست على لائحة أهداف داعش نتيجة البعد الجغرافي! لكن لا، فقد كشفت أجهزة الأمن البرازيلية عدة شبكات "متعاطفة" مع التنظيم، وفككتها خلال العامين الأخيرين. لعل مردّ الأمر إذاً عائدٌ إلى طبيعة المجتمع البرازيلي، المتعطشة دوماً للفرح والاحتفال. فعلى الرغم من أن البلاد تعيش أزمة سياسية حادة، بدأت منذ ثلاثة أعوام ولا زالت مرشحة للتصاعد، بالترافق مع أزمة اقتصادية هي الأقسى في تاريخ البلاد؛ لكن كل ذلك لم يمنع مواطني "البلد الكاثوليكي الأكبر في العالم"، من استقبال عيد ميلاد السيد المسيح وليلة رأس السنة باحتفالات مميزة لا ينقصها إلا غياب الثلج، الغائب الحاضر في الاحتفالات، كون البلاد تقع في نصف الكرة الجنوبي وتعيش فصل الصيف حالياً.

فقد أطلقت العديد من المؤسسات والجمعيات برامج تدعو إلى استقبال اللاجئين على طاولة العشاء في موسم الأعياد. ولكن هذه البرامج لم تكن محط اهتمام، لأنها بدت "مسبقة التحضير" وغابت عنها العفوية اللازمة. فيما كانت الحالة الأبرز هي الدعوات التي تمت من منطلق ذاتي. فعن هذه الدعوات غابت وسائل الإعلام والجو "المتأنق" الذي يرافقها. وغاب "التصنع" لتحل العفوية والألفة، التي يهواها الشعب البرازيلي الذي يكنّ تقديراً كبيراً لـ "العائلة" واجتماعها في المناسبات.

أمجد ملحم، شاب فلسطيني وصل إلى البرازيل منذ سنة ونصف تقريباً، تلقى دعوة من عائلة "فيهانتشي Ferrante" البرازيلية ليشاركها عشاء الميلاد والاحتفال بليلة رأس السنة. تقول "إليز فيهانتشي": "عرفت أن أمجد سيقضي ليلة العيد وحده، بعيداً عن عائلته، قمت وعائلتي بدعوته ليشاركنا عشاء الميلاد". بالنسبة لأمجد، فإن "ليلة ميلاد المسيح الفلسطيني، تستلزم الاحتفال كما كانت دوماً، ولبيت دعوتهم لأنني فضلت الاحتفال في أجواء عائلية تذكرني بعائلتي البعيدة عني". قامت العائلة بتحضير العديد من الأطباق التقليدية البرازيلية لعشاء الميلاد، "مع مراعاة خصوصية حضور شخص مسلم على الطاولة"، كما قالت لنا "إليز"، التي أضافت: "على الرغم من أن المائدة كانت برازيلية إلا أن أمجد أضاف لها نكهة فلسطينية خاصة مع صينية الكنافة التي قام بتحضيرها خصيصاً للمناسبة". يرى أمجد أنه من خلال "الكنافة" أحس فعلاً بألفة في العيد، إضافة إلى أنه استثمر المناسبة لتعريف مضيفيه بثقافته الفلسطينية. فعبرت لنا الشابة إليز التي ترتدي قلادة تتدلى منها خارطة فلسطين، عن رغبتها وعائلتها، بأن يتناولوا عشاءً معداً من أطباق فلسطينية فقط، وهو ما وعدهم أمجد بتلبيته قريباً.

بدا الأمر مشابهاً مع عائلة المحامي "م. أ." التي كانت ضيفة على مائدة "ماثيوس أوليفيرا Mateus Oliveira" وعائلته، يقول "م. أ.": "منذ لحظة وصولي إلى البرازيل كلاجئ، أدركت وعائلتي مدى الإنسانية التي يتمتع بها الشعب البرازيلي، الذي يقوم بمساعدتك دون أي مقابل، ومن أعماق قلبه". وتضيف زوجته: "رغم أن زوجي لم يعد يمارس مهنته السابقة في المحاماة، ونتدبر أمورنا بصعوبة من خلال العمل في إعداد الأكل العربي وبيعه، إلا أننا مرتاحون جداً هنا، والناس يعاملوننا بطيبة كبيرة ونشعر كأننا أصدقاء لهم منذ سنوات طوال". السعادة كانت بادية على محيا أطفال العائلة اللاجئة، الذين وجدوا في حضن الجد والجدة البرازيليين ما يذكرهم بأيام كانت لهم فيها "عائلة كبيرة". ومن جهته، ارتبك السيد أوليفيرا، عندما وجهنا له السؤال حول ما الذي يعنيه له استقبال عائلة لاجئة على عشاء الميلاد، ليوضح لنا بعد ذلك: "أنا لم أدعُ العائلة كونها لاجئة.. هم بالنسبة لنا، جيران وأصدقاء أحببنا أن يشاركونا العشاء..".

بالطبع، لم يكن هذا حال جميع اللاجئين الفلسطينيين في البرازيل، كثيرون منهم لم يتمكن من الاحتفال لأسباب عديدة. فالمهندس "م. ش." الذي وصل إلى البرازيل منذ عام ونصف، ولم يتمكن حتى الآن من أن يجد عملاً مناسباً، يقول: "للأسف لم أتلقَ دعوة من أحد، ولو تلقيت دعوة فلا أظن أنني سألبيها، عقلي الآن مشغول بعائلتي التي لا زالت هناك.. وبتحصيل لقمة العيش". وكذلك كان حال اللاجئ "أسعد. ز." الذي قضى موسم الأعياد، مشغول البال بعائلته التي لا زالت تعيش الحرب ومصائبها والتي لم يكن ينقصها إلا انقطاع المياه مؤخراً، ليقول لنا: "خيّا عيد شو!! وميلاد شو؟؟ بدي اضلني احرث هون لحتى اقدر أجيب المرة والأولاد.. ما عندهم مي يا زلمة.. خلص عاد!".

رغم كل ذلك، يمكننا أن نقول أنه في الوقت الذي سادت هواجس تكرار أحداث "التحرش الجماعي"، التي أفسدت احتفالات العام الماضي، في "كولن" الألمانية، (والتي تركت جرحاً عميقاً وأحدثت شرخاً في وعي جزء غير قليل من المجتمع الذي رحب باللاجئين في ألمانيا)، عمّت أجواء الألفة والاحتضان بين البرازيليين وضيوفهم من اللاجئين. وفيما انشغل الألمان بالخطة الأمنية الخاصة التي أعدتها السطات (وفق ما أشارت وكالة أنباء دوتش فيلله الألمانية)، انشغل البرازيليون بتحضير الأطباق وتجهيز الطاولة قبيل وصول الضيوف.. من اللاجئين.

خاص-بوابة اللاجئين الفلسطينيين

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد