كانت ثالث أيام العدوان الصهيوني على قطاع غزة، وعقارب الساعة تشير إلى حوالي العاشرة والنصف ليلًا، عندما نزحت عائلة أسمهان تيسير إلى مدرسة تابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، هرباً من القذائف والصواريخ التي أمطرت سماء شمالي مدينة غزة، طلبًا للأمان رغم الخطر الذي يلاحقهم .
اضطر أفراد العائلة المكونة من 12 شخصاً، للخروج على عجلٍ من المنزل دون أن يحملوا شيئا، والرعب والحسرة يتملكانهم، تركوا بيتهم وذكرياتهم خلفهم، يصرخون ويحاولون صمّ آذانهم من شدّة أصوت الصواريخ، وأنظارهم تُحاول خطف نظرة وداع أخيرة لمنزلهم.
إدارة المدرسة رفضت بداية فتح الأبواب للنازحين تحت ذريعة أن الأوامر لم تأت بعد
تقول أسمهان والتي تبلغ من العمر 20 عاماً، وتدرس تخصص اللغة العربية لبوابة اللاجئين الفلسطينيين:" كان جسدي يرتعش مع كل صوت انفجار اسمعه، أشعر أن الغارات والقذائف التي تطلق بشكل عشوائي، قد غرست في قلبي، فكنت أردد الشهادتين في كل ثانية، خشية من أن يباغتني الموت في لحظة خاطفة".
عندما لجأت العائلة إلى مدرسة ذكور الرمال، لتحتمي من القصف العنيف ، رفضت إدارة المدرسة فتح أبوابها لهم، تحت ذريعة أن الأوامر لم تأتِ بعد لاستقبال النازحين، لكن إصرار الناس دفعهم إلى فتحها بالقوة .
عبرت عن استيائها من تصرف الوكالة قائلة: "نحن تركنا أرضنا وبيتنا ومالنا بحثاً عن الأمان، للنجاة بأرواحنا، بعيدًا عن أمطار الصواريخ التي كانت تُلقى علينا، ومن ثم يتم منعنا من الإيواء داخل أروقة المدرسة!".
تتابع أسمهان: "افترشنا مدخل الدرج، لم يُسمح لنا دخول الصفوف في البداية، ونمنا على البلاط لمدة يومين على التوالي، وبعد ذلك أصبحنا نستعين بالحرامات للنوم عليها".
انتهى العدوان ولا نعلم إلى أين سنذهب فمنزلنا صار غير قابل للسكن
آلاف الفلسطينيين، نزحوا قسريًا من بيوتهم إلى مدارس وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، التي وثّقت نحو أكثر من 48 ألف نازحًا، توزعوا على 58 مدرسة تابعة لها، لليوم الحادي عشر على التوالي دون أي مقومات للحياة الآدمية، رغم أن الدور الأكبر يقع على عاتقها، بينما قدرت وزارة الصحة أن القصف الصهيوني تسبب في نزوح 107 ألفًا عن منازلهم.
تردف أسمهان "انتهى العدوان، ولا نعلم إلى أين سنذهب؟! ، فمنزلنا أصبح آيلاً للسقوط ولا يصلح للسكن الآدمي".
بصوت مخنق مرهق تواصل حديثها قائلة:" أكتر شي آلمني أني بقيت لأسبوعين غير قادرة على رؤية والدي، الذي يعمل سائق سيارة إسعاف في مستشفى الإندونيسي، كان يهاتفنا بشكل خاطف للاطمئنان علينا، وعندما أسمع صوته قلبي ينتفض من شدة اشتياقي له وخوفي عليه".
كان الرعب يتملكها عندما تسمع صوت القذائف والقصف على والدها الذي تخاف أن تفقده في أي لحظة فهو سندها ورفيقها في هذه الحياة، الذي لم يترك موقعه في الميدان على مدار الساعة، ليقوم بإسعاف الجرحى وإخراج الشهداء من تحت الأنقاض، تقول: "مهما أوصف لك شعوري، إلى بعيشه أصعب بكتير ومستحيل الكلمات تعبر عنه".
اللحظات القاتلة ذاتها عايشتها شقيقتها ريم التي كانت تجلس بجانبها منهكة بمراجعة دروسها، حتى تستعد لامتحانات الثانوية العامة، والمقررة منتصف الشهر المقبل.
خفت على كتبي المدرسية والمواد التي لخصتها من أجل الامتحان
ريم تبلغ من العمر 18 عامًا، قررت أن تتحدى الظروف التي فرضت عليها نتيجة العدوان الأخير على قطاع غزة، وتواصل المذاكرة كلما أُتيحت لها الفرصة، حتى تحصل على معدلٍ عالٍ يمكنها من دراسة التمريض.
تقول بعد تنهيدة يملؤها الحسرة:" كنت كتير خايفة من صوت القصف، خاصة أن الاحتلال الصهيوني استهدف البيت المجاور لنا "، وتحدثت لبوابة اللاجئين الفلسطينيين عن رعبها لحظة نزوحها وعائلتها من البيت قسرًا وهربًا من الموت، فالصواريخ تطارد المدنيين، - تضيف- "خفت على كتبي المدرسية وما لخصته من المواد الدراسية، كنت عارفة شو هي أهم النقاط إلى لازم أركز عليها، ومع اشتداد القصف خرجت مسرعة دون التفكير بأي شيء، ولم أفكر بحمل كتبي، فقدت البيت وما بداخله".
استغلت ريم السبورة الموجودة داخل المدرسة التي نزحت إليها، وبدأت بمراجعة دروسها في الوقت الذي يكون فيه الجو هادئًا نسبيًا، فهي لا تستطيع أن تركز كما كانت في السابق، فالأجواء داخل مراكز الإيواء غير ملائمة للدراسة، ولكنها تحاول جاهدة المثابرة.
تحاول ريم حث توأمها محمد على مواظبة الدراسة معها، من أجل تحقيق حلمه، بأن يدرس صحافة وإعلام، في بعض الأحيان يواصل الدراسة معها وفي أوقات أخرى يعزف، بسبب الظروف الصعبة التي تحيط به.
تقول ريم: "صديق أخي يقطن بجانب المدرسة التي نزحنا إليها، فيقوم محمد باستعارة كتبه المدرسية، وفي حال أراد أن يدرس صديقه المادة التي معي أعطيه الكتاب وأستعير كتاب آخر".
تتابع "أجتهد كثيرًا لأحقق حلمي، فالممرضون هم ملائكة الرحمة، وأحب أن أكون مثل والدي أراه على مدار اليوم، يعمل ويفني حياته من أجل إنقاذ حياة غيره".