بهدوء ينتشر الموت غير المبرر الذي يفرضه الاحتلال على أهل فلسطين، موت بلا أي أسباب واضحة يقع فوق رؤوس المدنين، طالما أنت على قيد الحياة في فلسطين فأنت مهدد من قبل الاحتلال، لأن دولة الكيان الصهيوني لم تكتف بسرقة الأرض والمنازل والحقوق المدينة، بل وصلت حتى نهايتها وهي سلب آخر شيء يملكه الفلسطيني وهو حياته.
سياسية محو الآخر التي يعتمدها الاحتلال، لم تنته في الحرب الأخيرة على غزة، بل عززت منطقه في القتل. تحمل دول الاحتلال ممحاة كبيرة وتحاول محو الأثر الفلسطيني من خلال القتل المتعمد وغير المبرر بأي فقه عسكري سياسي وأخلاقي.
لقد نفذ الاحتلال أكثر من مجزة في قطاع غزّة خلال العدوان الأخير، موت مفتوح على جميع الاحتمالات يسقط من أعلى الطائرات نحو حياة المدنيين ليفرض عليهم موت محتوم يجلهون أسبابه لكي يقيسوا به منطق الحياة. هكذا بكل بساطة في مجزرة مخيم الشاطئ التي رح ضحيتها اكثر من عائلة، وسواها. موت مفتوح ورائحة دماء، وإشلاء هذه هي الصورة التي وصل لها الاحتلال عندما اكتشف أنّ مشروعه يتعارض مع وجود الفلسطيني، وأنه لكي يستمر عليه أن يفرض مفهوم المجرزة الذي اعتمده منذ احتلاله لفلسطين.
عزز الاحتلال استعماله لأداة المجزرة منذ البداية، بل وشجع عليها واعتمدها كأسلوب لتثبيت احتلاله
إنّ الحكاية مستمرة يقول الكاتب والناشط السياسي الفلسطيني محمد الحلو لـ " بوابة اللاجئين الفلسطينيين"، و لقد بدأت عندما كانت الصهيونية تظن أنها سوف تحتل أرضاً بلا شعب، ولكنها تفاجأت أنّ لهذه الأرض شعب عريق له تاريخ ورؤية، ويستمد استمراره من الأرض، فكانت صدمة الاستيطان الإسرائيلي منذ البداية هو كينونة الفلسطيني، تلك الكينونة التي أمنت الصهيونية منذ بدايتها بقدرتها على محوه، حسبما أضاف.
ولكن مع الوقت والسنوات، بحسب الحلو، اكتشفت الحركة الصهيونية أنها أمام شعب لا ينتهي أبداً، بل عزز الاحتلال استعماله لأداة المجزرة منذ البداية، بل وشجع عليها واعتمدها كأسلوب لتثبيت احتلاله، فالعقوبات التي يفرضها الاحتلال على مرتكبي مجازر الحرب تكاد تكون شكليه، فلا يوجد قانون أو محاكمة كاملة وعادلة لمرتكبي الجرائم، وهذا ما يضع الاحتلال في دائرة تعمد القتل الأمر الذي لم نشك به يوماً.
فإذن، في كل موت لدينا موت أكبر يتشكل من قدرتنا على استعياب استمرارية القتل المنهج التي يتبعه الاحتلال الإسرائيلي، هذا ما يقوله أهل الداخل فلسطين بعد كل جريمة يرتكبها جنود الاحتلال الإسرئيلي.
إنهم لا يدركون هذا الموت الكبير الذي يحتل يومياتهم ويقسمها إلى دوائر منفصله تمنعهم من ممارسة حياتهم بحرية، يتبع الاحتلال الإسرئيلي لليوم ذات المنهجية التي احتل بها الأرض لأول مرة، إنها سياسة البطش غير المبرر، والذي لا يستند على أي فقه عسكري أو سياسي أو أخلاقي، ليتقرب الفلسطيني يوماً بعد يوم من رموز الموت ومعانيه، ويفهم أكثر كيف يجب يعيش في مساحة ضيقة لا تتسع لتنهيده واحدة أبداً.
قتل شاب مُصاب بالتوحّد.. اثبات لمنهجية القتل
منذ أيّام، مرّت الذكرى الأولى لاستشهاد الشاب الفلسطيني إياد الحلاق، الذي قتله جنود الاحتلال الإسرئيلي في القدس بتاريخ 30 أيّار/ مايو 2020، رغم إصابته بإضطراب التوحد.
لم يكن إياد يفهم لعبة الموت التي تحصاره باستمرار، و لم يعرف يوماً لماذا يموت الناس من أجل البلاد. كان بسيطاً لدرجة يظن فيها أنّ الموت فقط للكبار، أمّا الصغار فلا يموتون أبداً.
إنّ تهمه إياد الوحيدة هي أنّ فلسطين بلاده، إنّه ينتمي إلى أصحاب الأرض الذي يدافعون يومياً عن حقهم في الوجود، وكأنّ حتّى وجود شاب فلسطيني يعاني من التوحّد على قيد الحياة، هو تهديد حقيقي لاستمرار الاحتلال.
ما يؤلم في استشهاد إياد حتى الآن ليس موته، ما يؤلم حقاً أنه لا يعرف لماذا مات، هذا أقسى ما قد يعيشه الإنسان، عندما لا يجد التبرير الذي يمرر من خلاله موته، ولا نعرف حتى اليوم لو عاد إياد ليسألنا عن أسباب موته ليفهما، ماذا يمكن أن نقول له. لقد وضعنا هذا الاحتلال مع أطفالنا وأصدقائنا وأهلنا في نقطة لا نعرف فيها كيف نبرر موتهم، وبأي الكلمات يمكننا أن نصف رحيلهم المدوي عن الحياة، أنه يعيدنا إلى دوائر الموت الفارغة التي لا يمكن من خلالها وصف معاني الموت.
وما يؤلم كذلك، أنّ إياد حاول الاحتماء من الموت بمعلمته قبل رحيله، خاف من جهله للموت. فبحسب رواية الشهود عند باب الأسباط، وفي اللحظة التي لحق فيها الجنود الشهيد إياد، رأى معلمته وحاول الاختباء خلفها، ولكن الجنود كانوا قد أطلقوا ثلاث رصاصات على قدميه، ليزحف خلف ظهر معلمته، ليحتمي بها، لا لشيء سوى لأنه شعر لأول مرة أنّه وحيد، ويجب أن يكون له شيء في هذه الحياة. ولكن جنود الاحتلال أبعدوا المعلمة، ولكنها حاولت أن تحتمي معه في مكتب صغير لإدارة النفايات، ليطرق إياد بخوف باب إدارة المكتب، فقُتل بـ 26 رصاصة، دون مبرر لفعل ذلك، ولن يوجد.
ويؤكّد الناشط محمد الحلو في هذا الصدد، أنّ هذه ليست الجريمة الأولى التي يرتكبها الاحتلال بحق أشخاص من ذوي الاحتيجات الخاصّة، بل ارتكب الاحتلال أمام أعينه، جريمة قبل أربعين سنة، بحق ابن بيئته كفاح الزاغا من نابلس، الذي كان يعاني من تأخر عقلي.
لقد قتله الاحتلال لسبب واحد هو ترهيب أهالي نابلس، وفرض الخوف عليهم في مواجهة الاحتلال، فقتله كان رسالة مفتوحة لسياسية الموت الممنهج الذي سوف يتعرض له الفلسطيني في حال واجه الاحتلال، بحسب الناشط الحلو.
ما الذي يريد أن يقوله الاحتلال بقتله لأياد الحلاق، الشاب البسيط الذي يعاني من إضطراب التوحد؟، وكذلك من قتل ابراهيم أبو ثريا الشاب المقعد من ذوي الاحتياجات الخاصة، الذي استشهد في العام 2017.
إنّها سياسية "إسرائيل" التي تعتمد كما يقول المؤرخ "الاسرائيلي" إيلان بابيه، على قوة المجزرة، يهدف الاحتلال منذ استيطانه لفلسطين على تقديم الموت غير المبرر وعلى قوته لفرض السيطرة.
الشعب الفلسطيني صار مدركاً لأبعاد الموت التي يفرضها الاحتلال، رغم عجزه عن فهم كينونة الترهيب التي يسقوها
إنّ معركتنا اليوم معه تبدو على تنهيدة واحدة، نتنفس فيها هواء فلسطين، يفرض الاحتلال في كل يوم لغة الموت، ليقول أنه موجود وباق، يفرض أدوات الموت دون أي تبرير ليثبت استيطانة اليومي في فلسطين.
وفي هذا، يضيف الكاتب الحلو لـ"بوابة اللاجئين الفلسطينيين" أنّ الشعب الفلسطيني صار مدركاً لأبعاد الموت التي يفرضها الاحتلال، رغم عجزه عن فهم كينونة الترهيب التي يسقوها، صار مدركاّ أنّ الاحتلال لا يملك أي أخلاقيات، تفرض عليه وقف المجزرة.
يقول الشاعر محمود درويش " إلا تحفظون قليلاً من الشعر كي توقفوا المجزرة ؟ الم تولدوا من نساء ؟ ألم ترضعوا مثلنا حليب الحنين إلى أمهات ؟ " لقد كان الشاعر محمود درويش، يبحث عن الإنسان في من يرتكب هذه المجازر، في بعده الأخلاقي الذي يؤكد على طبيعته في الحياة. ويسأل هل هو مثلنا؟ له أم وعائلة؟.
بينما من جهة أخرى، يحرص الاحتلال على شيطنة الفلسطيني، وتقديمه كمخرب يستحق الموت، بينما الفلسطيني يبحث عن أسئلته التي تواجه هذا الموت، بل وتنتصر عليه، ويؤكد وجوده الحقيقي في أرضه من خلال شيء واحد، هو أن يقترب من الحياة بحذر، وتنفس ولو مرة أخيرة في أرضه التي صارت ضيقة، ولا تتسع حتى لتنهيده واحدة، ولكنه مستمر.