مشاعر مختلطة من الحزن والشوق والفخر اجتاحت قلب أم عزمي منصور، وهي ترى صورة ابنها عزمي معلقة على الجدران، بعض الصور تآكلت مع الزمن فقد مر عام كامل على استشهاد فلذة كبدها.
أخذت تتأمل بقايا إحدى الصور التي كُتب أسفلها، "الشهيد البطل عزمي أحمد منصور".
الجميع في المخيم يكن لها الكثير من الاحترام، كيف لا وهي أم الشهيد الذي مرغ أنف عشرات الجنود الصهاينة في التراب.
الشيء الوحيد الذي يثقل كاهلها أنها لم تستطع تقبيل جبين عزمي أو حتى أن تلقي عليه النظرة الأخيرة .
أحد الجيران أخبرها أنهم بالتأكيد قد احتفظوا بجثته في مقبرة الأرقام.
الشهيد حي يرزق
عام كامل مر على استشهاده ، في كل ليلة من ذلك العام كانت تتمنى لو استطاعت أن تحضن جثمانه، قبل أن يوارى الثرى.
لقد صدر بيان باستشهاده بتاريخ 18- 3- 1968، جاب الأردن وبعض الدول العربية، وعرفت من أقاربها نبأ استشهاده، ففتحوا له بيت عزاء، بينما والده كان يعمل مدرساً بالسعودية، لم يعلم إلا بعد وصوله مع انتهاء العام الدراسي.
ما لم يكن يعلمه الجميع أن عزمي ما زال حياً يرزق، كان موقوفًا بسجن نابلس، فبعث حينها رسالة لجده "والد أمه" الذي يقطن في مدينة نابلس، يقول فيها: "إنو لساتو عايش ما استشهد"، و حمل الجد الرسالة للأردن وأخبر ذويه أن عزمي ما زال على قيد الحياة.
ارتسمت اللهفة على وجهها وهي تتناول المكتوب وتفتحه سريعاً وتلتهم سطوره.
أخذ ذووه يدققون بالخط الموجود بالرسالة مع ذلك الموجود في دفاتره المدرسية، وأيقنوا أنه خط عزمي، فطلبوا من الجد أن يزوره، ليتأكد أنه حي و بعد عام، تكحلت عينا الأم برؤية ابنها المناضل.
ينطلق قطار الحديث من عند صباه وهزيمة نكسة حزيران عام 1967، فيخبرنا الدكتور عزمي بغصة :" كنت شاهداً على تشرد الشعب الفلسطيني ونكسته بعد أن خابت آمالنا وتوقعاتنا بالعودة إلى الديار، لنهجر مرة أخرى".
بداية النضال
عزمي المنحدر من قرية المنسي قضاء حيفا والمهجر منها بسبب النكبة عام 1948 ، لم يشعر سوى شعر بالإحباط والخذلان بعد نكبة حزيران، حينها أصر أن ينتقل من مخيم جنين إلى الأردن، ليلتحق بقوات التحرير الشعبية بمنظمة التحرير الفلسطينية ومن هناك تدرب في معسكرات تابعة لجيش التحرير الفلسطيني، ونزل إلى القواعد الشعبية على طول الأغوار الشمالية في الأردن، و شارك في بعض العمليات الفدائية، ومن هنا بدأت المسيرة النضالية لعزمي.
كان في السابعة عشرة من عمره في ذلك الوقت، وكان منخرطاً في صفوف الثورة الفلسطينية ورغم صغر سنه، كُلف وثلاثة من رفاقه بتنفيذ عملية جريئة داخل منطقة بيسان المحتلة، غرب نهر الأردن .
أول مرة داخل الوطن
يسرد منصور تفاصيل العملية لبوابة اللاجئين الفلسطينيين:"رصدنا المعسكر الإسرائيلي غرب النهر لأيام عديدة ، قبل أن تحين لحظة الصفر ونتحرك لتنفيذ المهمة، كان منسوب الماء مرتفعاً في النهر، فقام أحد رفاقه بالسباحة عبر النهر، وربط حبلاً يصل إلى الضفة الأخرى، و قطع الشباب الأربعة النهر، بمساعدة ذلك الحبل وسط الظلام الدامس، اختاروا التوقيت الذي يتم فيه تبديل الدوريات، حتى يتمكنوا من استهداف أكبر عدد ممكن من الجنود الإسرائيليين، داخل الموقع العسكري ويكبدهم خسارة فادحة، وما إن قطعنا النهر حتى بدأنا بالزحف تجاه الموقع المستهدف بحيطة وحذر كبيرين، رغم الخطر الكبير إلي بهددني وأنا بزحف باتجاه الموقع العسكري الإسرائيلي إلا إنه كان شعوراً جميلاً ومستحيل الوصف، أن تحط قدماك في أرض بلادك".
يتابع الدكتور منصور: توزعوا حول الموقع بشكل طوق وهجموا من خلال إطلاق القنابل اليدوية، باتجاه الموقع ثم انهمروا على الجنود بنيران الرشاشات، الاشتباك كان شرساً وكنا نسمع صوت صرخاتهم ونرى قتلاهم ملقية على الأرض في المكان، كانت الخطة تستهدف خطف أحد الجنود من أجل أن إجراء صفقة تبادل أسرى، وبالأخص رفيقنا علي زغيبي من مخيم جنين، مر وقت كبير واحنا بهادي الحالة لكن فجأة انفتحت علينا نيران جهنم.
قنابل التنوير بدأت تمطر من الجبال المرتفعة، والقذائف والرصاص انهمرت على عزمي ورفاقه من مروحيات ودبابات الاحتلال، وفي ذلك الوقت اخترقت رصاصة قدمه وارتمى أرضاً، يضيف: "احتميت أنا وأحد رفاقي داخل حفرة قريبة منا، واستشهد باقي الرفاق في موقع الاشتباك" .
إصابة عزمي أفقدته القدرة على المشي والحركة، فطلب من رفيقه أن ينسحب من الموقع، ورفض الأخير، لكن إصرار عزمي دفع زميله أن يتحرك باتجاه الشرق، وفي الوقت ذاته اشتبك عزمي مع الجنود من داخل الحفرة.
باغتته إحدى القذائف، فانفجرت بالقرب منه وفقد الوعي آنذاك، يتذكر "استيقظت لاقيت حالي في مستشفى هداسا الإسرائيلي".
أسير مُصاب وسط خاسرين في الكرامة
يردف: "وجودي بمستشفى هداسا تزامن مع اندلاع معركة الكرامة حيث تم اعتقالي قبلها بثلاثة أيام، كنت أرى عشرات الإصابات في صفوف الجيش "الإسرائيلي" تدخل المستشفى، في البداية اعتقدت أن الإصابات ناتجة عن العملية الفدائية التي نفذتها أنا ورفاقي، لكن أخيراً علمت أن هناك معركة شرسة مندلعة بين الفدائيين الفلسطينيين والجيش الأردني من جهة وبين جيش الاحتلال الصهيوني من جهة ثانية" .
الخسائر "الإسرائيلية" في معركة الكرامة كانت ضخمة جداً، لدرجة أنه لم يكن هناك متسع، لعلاج الإصابات التي نقلت إلى المشفى، وأخرجوا عزمي من غرفته التي يتلقى بها العلاج ورموه في أحد الممرات، فالأولوية كانت لمعالجة جنودهم .
يتابع حديثه: "بين كل فترة وأخرى كان يتم نقلي من المستشفى إلى مركز التحقيق أو من المستشفى إلى المحكمة، كانت عملية النقل رحلة عذاب بصندوق حديدي بالنسبة لي، خاصة أن جنود الجيش الإسرائيل"، كانوا يتعمدون قيادة الباص بأماكن وعرة وكلها مطبات وكنت مع كل مطب أشعر بآلام رهيبة بإصابتي، إضافة إلى أنهم كانوا يتعمدون السخرية مني، من أجل رفع معنويات جنودهم، ويحدثونهم: هي المخرب إنسان ضعيف عادي ما في داعي للخوف منه" .
كانوا يماطلون بإجراء التحقيق معه، قبل المحاكمة بانتظار أن يبلغ 18 عاماً، حتى يستطيعوا محاكمته، وبعد أن بلغ هذا السن حكموا عليه بأحكام عالية و كانت عبارة عن سجن مدى الحياة مع الأعمال الشاقة.
العملية التي نفذها عزمي ورفاقه، أسفرت عن 8 قتلى في جنود الاحتلال و 12 جريحاً ما جعله يشعر بالفخر والاعتزاز.
بعد مضي عام على اعتقاله في سجن نابلس استطاع أن يهرب رسالة، من خلال أحد طلاب المظاهرات المحتجزين لفترة مؤقتة، وأرسلها لجده المقيم في مدينة نابلس .
يقول عزمي: لك أن تتخيل مشاعر أمي وأهلي في ذلك الوقت كيف لهم أن يتلقوا هذا الخبر المبهج بعد اعتقادهم أني استشهدت وفتحوا لي عزاء، توجه جدي فورًا إلى الأردن، لنقل محتوى الرسالة " عزمي ما زال على قيد الحياة".
تعجز الكلمات عن وصف مشاعر عزمي لحظة لقائه الأول بأمه، "رغم إني كنت مصاب وقتها ، إلى إني بذلت مجهوداً كبيراً لرفع معنوياتها وما أحسسها بأي خوف علي" على حد وصفه.
الحرية بعد نحو عقدين
بعد مضي 18 سنة على اعتقاله، في 20 أيار/مايو1985، جرت عملية تبادل بين الاحتلال الصهيوني والجبهة الشعبية -القيادة العامة- سميت "عملية الجليل"، أطلق الكيان الصهيوني بموجبها 1155 أسيراً فلسطينياً، وفي مقابل ذلك، أطلق الفلسطينيون ثلاثة جنود "إسرائيليين"، وكان اسم عزمي من الأسماء المدرجة في صفقة التبادل.
يقول د. منصور: "لما حكمني القاضي بالحكم كنت أضحك، كنت متأكد إني راح أطلع من خلال صفقة تبادل؛ حتى لو طالت المدة".
دخل عزمي منصور سجون الاحتلال "الإسرائيلي" وهو طفل يبلغ من العمر 17 عاماً، وخرج هو في السادسة والثلاثين من عمره، وأصر أن يكمل تعليمه حتى أنهى رسالة الدكتوراة، وتعلم كل ما فاته داخل أروقة الزنزانة، وأصبح محاضرًا في الجامعة، وصدر له العديد من المؤلفات، منها “الحياة وقفة عز”، دراسة بعنوان “المنسي "حيفا" دراسة سوسيولوجيا لقرية فلسطينية، “التغيرات في المناهج التربوية الأردنية وارتباطها بالتغيرات السياسية والاجتماعية”، وأسس جمعية مناهضة الصهيونية والعنصرية في الأردن.