لعل من أبرز التحديات التي يواجهها اللاجئون الفلسطنيون في لبنان خلال الأزمة الاقتصادية الحادة التي يعاني منها هذا البلد، هو تدهور القطاع الصحي في المخيمات، ولا تقتصر أسباب هذا التدهور عن انقطاع مادة المازوت الذي أوقف الكهرباء في عدد من المستشفيات التابعة للهلال الأجمر الفلسطيني مرات عدة، بل تعدى ذلك إلى فقدان الأدوية والمعدات الطبية.
يحذر مدير مستشفى الهلال الأحمر الفلسطيني "حيفا" بمخيّم برج البراجنة جنوبي بيروت د. خليل مهاوش من الأسوأ الذي يراه قادماً في الأيام المقبلة، في حال استمرّت أزمة الوقود، بحسب ما يقول لبوابة اللاجئين الفلسطينيين.
الوقود المخزّن في مستشفى حيفا لحالة الحرب قد نفد
وبحسب مهاوش فإنّ القطاع الصحي في خطر ما دامت أزمة المازوت موجودة في لبنان، لأن المستشفى تعتمد بشكلٍ كليّ على الكهرباء، ويشير إلى أن المخزون الاحتياطي للمازوت الذي كانت تخزّنه مستشفى "حيفا" سابقاً لاستخدامه في حال نشوب حربٍ وهو يكفي لمدّة شهر قد نفِد مع اشتداد الأزمة الحالية، لافتاً إلى أنّ هذا الأمر دفع بإدارة المشفى إلى استخدام سياسة التقنين للمحافظة على استمرار تقديم الخدمات الطبيّة لفترة أطول من الزمن حتى إيجاد حلول في لبنان، حيث تعمل مولّدات المستشفى بكامل قوّتها في ساعات الصباح حتى انتهاء إجراء العمليات الجراحية كما تعمل مساءً، ويتمّ توقّفها في ساعات النهار، لكن في الأيّام المقبلة سيشهد المستشفى تغييرًا في ذلك بعد استحصال الادارة على مولّد صغير ينير المستشفى طيلة اليوم، ويبقى هذا مرهونًا أيضًا مع توفّرمادّة المازوت، وفق مهاوش
يضيف د. مهاوش: أن مستشفى "حيفا" التي تقدّم الرعاية الصحيّة للاجئين الفلسطينيين في بيروت، هي جزء من المنظومة الطبية الموجودة في لبنان والتي تئنّ نتيجة انهيار العملة اللبنانية أمام الدولار، وعلى الرغم من أنّ مستشفيات لبنان أوقفت العمليات الباردة وبعضها أوقف المكيّفات وأجزاءً من الأقسام الطّبيّة للحفاظ على مخزون المازوت المتوفّر لديها، لا تزال مستشفى الهلال تجري العمليات الباردة حتى إشعار آخر، مؤكّدًا أن المستشفى منذ البداية إلى اليوم لم يتوقّف عن تقديم خدماته ويستقبل يوميّاً حالات مرضيّة.
ورغم تراجع قيمة الليرة اللبنانيّة وفقدانها أكثر من 80 في المائة من قيمتها، لم يطرأ أي تغيير على أسعار الاستشفاء في مستشفى حيفا، بحسب مهاوش الذي يقول: إن الإدارة المركزية لجمعيّة الهلال الأحمر الفلسطيني تقدّم الأدوية من المخزون الموجود في مستودعاتها، لذا أبقت الأسعار على حالها لكن يتمّ استهلاكها كما المازوت وفق خطّة ترشيد للحفاظ عليها قدرَ المستطاع خصوصًا مع انقطاع العديد من الأدوية في السوق اللبناني.
تقديم العلاج بشكلٍ شبه مجانيّ اذا ما قورِن بالمستشفيات الخاصّة الموجودة على الأراضي اللبنانية، دفع بالعديد من المواطنين اللبنانيين إلى اللجوء لمستشفى "حيفا" لتلقّي العلاج، فباب المستشفى بحسب مديرها مفتوحٌ منذ اللحظة الأولى لانطلاقته لجميع الجنسيات وتقدّم الرعاية الطّبيّة للجميع دون تمييز أو تفرقة.
ودعا د.مهاوش أبناء وأهالي مخيم برج البراجنة إلى المحافظة على الصرح الصّحيّ الوحيد الموجود في المخيم، عبر عدم التعدي على خطّ الكهرباء المغذّي للمستشفى، مشدداً على "أنّ الاعتداء على الخط هو اعتداء على المستشفى والاعتداء عليها هو اعتداء على حرمة البيوت نفسها ، لأنّ الذي يسرق من الكهرباء ويسبب بانقطاعها عن المستشفى يمكن أن يمرض ابنه ويحتاج إلى كهرباء،وبالتالي فإن المعتدي أذى نفسه قبل أن يؤذي المجتمع."
نخوض أصعب المعارك والنتائج كارثية في حال لم تتحرك الجهات المسؤولة عن الفلسطينيين في لبنان
"هذه من أصعب المعارك التي نخوضها الآن"، بهذه العبارة لخّص مسؤول مركز أمان الطبي ثائر الدبدوب الأزمة الحاصلة في لبنان والتي انسحبت بشكلٍ خطير على المخيّمات الفلسطينية، فالقطاع الصّحيّ وفق الدبدوب أمام خطرٍ كارثيٍ يهدد مئات آلاف اللاجئين، في حال لم تتحرك الجهات المسؤولة عن الشعب الفلسطيني وتقوم بدورها.
فعلى صعيد مركز "أمان الخيري" يُغلقُ منذ أيّام أبوابه باكرًا ولا يستطيع تقديم العلاج والاستشفاء لزوّاره المرضى، بسبب الانقطاع التام لكهرباء الدولة بالتزامن مع الانقطاع التّام لكهرباء مولّدات الاشتراك، التي تنتهج حديثًا تقنينًا قاسيًا جدًا يصل لأكثر من ١٥ ساعة انقطاع، الأمر الذي عطّل أعمال المركز وترك الناس بلا علاج!
ويشير الدبدوب لموقعنا إلى أنّ الأزمة تزداد سوءاً يوماً بعد آخر، وأيّ حلول يتمّ العمل عليها تُضربُ بعُرض الحائط، لأنّ الأزمة أصعب وأعمق مما يتخيّل الناس، فقد سعى المركز إلى تأمين مولّدة كهرباء كبيرة تلبّي احتياجاته خلال ساعات العمل، لكنّ أزمة المازوت تحولُ دون تشغيلها! وتشتدالأوضاع بوقتٍ تزداد فيه حالات الإصابة بفايروس كورونا، فهناك ٦٧ حالة كورونا بالمخيم أكثر من ٢٠ شخصًا منها بحاجة إلى الأوكسجين، هذه العبوات قد فرغت، والعبوّات الأخرى المتوفّرة لدى مركز أمان تعمل على الكهرباء وبالتالي لا يمكن تشغيلها، الأمر ذاته تعاني منه أجهزة الأشعّة والتصوير التي تعمل على الكهرباء، بحسب الدبدوب.
ليست أزمة المازوت الوحيدة التي تربِكُ عمل الطاقم الطّبي في مركز "أمان" فبحسب مسؤوله، أزمة المعدّات الطّبيّة والأدويّة تشكّل هاجساً لديهم، بعد ارتفاع أسعارها بشكلٍ جنونيّ أو انقطاعها من السوق، وأوضح الدبدوب أنّ أفلام الأشعّة على سبيل المثال كانوا يحصلون عليها بدولارٍ واحد أمّا اليوم فقد وصلت تكلفته إلى ١٢ دولاراً، حتّى أن الأقراص غير متوفّرة، كذلك الدواء أصبح الحصول عليه أمرًا بغاية الصعوبة،غالبيته مقطوع والمتوفّر غالي جدًا ففيتامين د كان ثمنه ٢٥٠٠٠ ليرة لبنانية بالأمس وصل إلى ١٢٥٠٠٠، فرقٌ كبيرٌ في الأسعار يستدعي تغيير أسعار الكشفيّات لكن مركز أمان لم يفعلها وفق الدبدوب مراعاةً لظروف الناس الاقتصادية، وهو ما كلّفهم خسارةً ماديّة وصلت الشهر الماضي إلى ٢٢ مليون ليرة لبنانية.
للمرة الأولى في تاريخ لبنان تُفقد الأدوية بهذا الشكل
الصيدلاني محمود الشولي المعروف بمخيم برج البراجنة بابتسامته التي لا تفارق وجهه، والذي لم يلجأ إليه أحدٌ منذ عقود إلا ووجد مبتغاه عنده، كانت الدّمعة حبيسة عينيه حين قابلناه، قال لنا بغصّة: إنه منذ تخرّجه عام ١٩٨٣ ومباشرة عمله في هذه الصيدليّة لم يشهد أيّاماً بصعوبة هذه الأيّام، حتّى أثناء الحروب والاجتياحات والحصارات!
فللمرّة الأولى تُفقد الأدوية بهذا الشكل، وخاصّة أدوية الأمراض المزمنة وأدوية الأعصاب التي لا يستطيع مرضاها تركها بتاتًا، فأصبح المريض وفق الشولي يسأل مباشرةً عن البديل لأدويته شرط أن يكون بنفس التركيبة ومع هذا فإن البديل أيضاً مقطوع.
ويضيف الشولي: وصلنا لمرحلة مزرية بالنسبة للأدوية، بعض الناس تعتمد على أقربائها المغتربين خارج لبنان، والبعض الآخر يضطر إلى شراء الدواء بسعر غالي جداً من تركيا أو من الخليج، أكثر من نصف الأدوية مفقودة وهي أدوية على أهميتها إلّا أنها بسيطة كأدوية الالتهابات والرشح وخافض الحرارة والمسكنات، ولفت الشولي إلى أنّ انقطاع الكهرباء يؤثّر جدًا على الأدوية التي يجب أن تحفظ داخل الصيدلية في درجة حرارة محددة.
هذه الأزمة وفق الشولي تأتي نتيجة احتكار التجار للأدوية وتخزينها في مستودعاتهم، والسبب على الأرجح هو الاختلاف على تسعيرته، فيما يدفع المريض فاتورة جشع التّجار.
وناشد الشولي "أونروا" والمسؤولين عن الشعب الفلسطيني إلى الإسراع في إيجاد حلول للأزمة وطلب الدعم من المجتمع الدولي لتقديم الأدوية لا سيما الأعصاب والسرطان والأمراض المزمنة.
ويقول اللاجئ الفلسطيني علي الميعاري الذي سأل الصيدلي أمامنا عن عدّة أنواع للأدوية ولم يجد طلبه "منذ أيام نبحث عن دواء للاكتئاب لأخي في بيروت الشرقية والغربية ولم نجده وبعد جهود حصلنا عليه من خلال شخص يسكن بقربنا مقابل مبلغ ١٢٠٠٠٠ ليرة لبنانية، وتفاجأنا أن السعر الموجود على علبة الدواء هو ٢٩٠٠٠ ليرة، وفي اليوم التالي وجدناه في صيدلية بقيمة ٢٨٠٠٠"، وتعجّب ميعاري من "حال الطّمع الذي وصل إليها الناس في هذا الوقت!"
وصلنا إلى وقت نحتاج فيه لكل شيء ولا نجد شيئاً
المعاناة واحدة ولو اختلف عُمْرُ المريض، كمال سعيد شحيبر المنحدر من بلدة شعب المولود في فلسطين قبل النكبة بستة أعوام، والمقيم في مخيم برج البراجنة منذ ٦٥ عامًا يقول: "صحيح كانت حياتنا فقر وقلة في المال لكن كنّا نعيش بالحدّ الأدنى، كانت أونروا تقدّم بعض الخدمات، لكن الآن وصلنا لمرحلة نحتاج فيه لكلّ شيء، لا كهرباء لا ماء لا هواء لا دواء، كلّ شيء مفقود وبات الحصول عليه أمرًا تعجيزيًّا" داعياً إلى تخيل أن يكون المء مريضاً ويريد دواء بماله لا كمساعدة ولا كهبة من أحد ولا يجده ولا يستطيع الحصول عليه لأنه مقطوع.
ويضيف شحيبر: "أنا مريض ضغط وسكري وقلب وڤريز، أدويتي غالبيتها غير متوفّرة لدى عيادة أونروا والمتوفّر تركيبته لا تلائم جسدي، أبحث حالياً عن الدواء في كل الصيدليات ولا أجده، كذلك زوجتي تعاني من التهابات في الغدة، لم نجد الدواء الذي وصفه الطبيب لها، أحضرتُ لها البديل فمرضت أكثر وزادت حالتها سوءا، فحتّى البديل في حال توفّر على الأرجح لا يُناسب جسم المريض" تنهّد أبو سعيد وأخذ نفساً عميقاً وختم بـ "الله يفرجها".
أمّا اللاجئة رابعة معطي والتي صادفناها خلال وجودنا في مركز "أمان الطبي" وتحملُ بيدها صورًا عن وصفات طبيّة لأدويّة، تقول: "بحثت لزوج ابنتي عن دواء للقلب فقد خضع منذ فترة لعملية ولم أجده في أيّ صيدلية"، وتشير معطي إلى أنّه يجب على أونروا إدراج دواء القلب ضمن لائحة الأدوية التي تقدّمها للاجئين الفلسطينيين في عياداتها، خصوصًا في هذه الفترة العصيبة التي أصبح فيها تأمين الدواء كحلم يصعب تحقيقه!
أمام هذا الواقع، يجمع المعنيون على أن الحل الوحيد المتاح حالياً هو الحصول على هبة دولية مخصصة لدعم القطاع الصحي يخدم احتياجات اللاجئين ويحمي صحة وسلامة المخيّمات الفلسطينية.