منذ ولادتها لم تكن ميرنا ديب اللاجئة الفلسطينية في بيروت فتاةً عادية، ولدت ووزنها نصف كيلو فقط وبإعاقةٍ في يديها ورجليها والتواء بالعامود الفقري وكتلة دماء في رأسها.

 مشاكل صحية كثيرة دفعت بالأطباء إلى إخبار والديها بأنّها لن تعيش بشكل طبيعي وستتدهور حالتها أكثر فأكثر وعليهم أن يقتلوها بما يسمّى "الموت الرحيم" عبر إعطائها إبرةً تنهي حياتها، رفض والداها اقتراح الأطباء، وأكّدا أنّهما موافقان أن تعيش كما هي راضين بقضاء الله وقدره ومتقبّلين حكمه.

طفولة مؤلمة

سنتان كاملتان عاشتها ميرنا في المستشفى بين عمليات في رجليها ويديها، لم تفارقها والدتها لحظةً، وعند خروجها من المستشفى لتتأكد أمّها من ان ابنتها لا ترى ولا تسمع كما أخبرها الأطباء، وضعتها في غرفة لوحدها وبدأت تصرخ بأعلى صوتها، وهنا كانت المفاجأة بأن بكت ميرنا وذلك يعني أنّها تسمع وعندما اقتربت منها رمّشت بعينيها ما يعني أنها ترى، خرجت أمها من الغرفة تصرخ وتبكي والفرحة ملأت قلبها، وتمسّكت بأملٍ جديد يمكن أن يُبنى عليه وتصبح ميرنا بحال أفضل.

من هنا بدأت مرحلة العلاج الثانية، لم يترك والداها طبيباً إلا وطرقا باب عيادته، لكنّ الطب حينها لم يكن متطورًا في لبنان كما الآن، لذا اضطرت ميرنا أن تسافر بصحبة أمّها في سنّ الثانية عشر إلى روسيا، بقيت هناك سنة كاملة بقيت أجرت خلالها ٧ عمليات بين يديها ورجليها، لكن للأسف فشلت جميع العمليات لأنه تبيّن أنه لا يوجد عضل في جسمها فقط أعصاب.

مواجهة التنمر

تقول ميرنا لبوابة اللاجئين الفلسطينيين:  عدت  من روسيا بدون فائدة لكنّ مجتمعي للأسف "متخلف" وأنا حزينة لقولي هذه الكلمة، من قبل لم يكن هناك هذا الوعي الذي نراه الآن، لم يكن هناك مؤسسات وجمعيات ترشد الأهل عن كيفية تربية أطفالهم بدون تنمر وأن يتقبلوا الأشخاص المختلفين، هذه المشكلة كانت تنعكس سلباً على حياتي وتمنعني من الاندماج فيه.

لم تقبل مدرسة في بيروت انضمام ميرنا إليها، إلّا مدرسة واحدة اسمها رأس بيروت التابعة للجامعة الأميركية، الوحيدة التي وافقت على دمجها مع بقية الأطفال، لكنّها تعرّضت للكثير من الأسئلة المحرجة مثل: "ليه هيك بتمشي؟ ايديكي ليه هيك؟ اجريكي ليه هيك؟ عوجة! ليك كيف راسا!" لأن انتفاخ رأسها قبل ارتداء الحجاب كان ظاهراً.

كلّ هذا الكلام شكّل ضغطاً نفسياً لدى ميرنا لم تتكلّم أبدًا فيه كانت تكبته، وحول هذا تقول ميرنا:  والدي كان ينزعج جدًا من تصرّفات الناس وكلامهم السلبي وفي بعض الأوقات كان يضرب من يسخر مني،  واستمرّت حياتي على هذا الشكل، في المرحلة المتوسطة وفي الثانوي انتقلت إلى مدرسة أخرى قريبة من بيتي، كانت جيدة ولكن كما هو الحال هناك الجيد وهناك السيء المتنمر الذي لا يراعي مشاعر الاخرين، كنتُ أسمع بأذنيّ يقولون: "ليك كيف هاي ليك كيف إيدها ليك كيف بتحمل القلم!" لأني لا أستطيع أن أحمل القلم بشكل طبيعي.

مرحلة التحدي

وصلت ميرنا إلى صف الباكالوريا ثانية (التوجيهي) وهنا شعرت بالاختناق، ضغط السنين كلّه، عزلها سنة كاملة في البيت، لا تقوم بأي عمل، لا تخرج أبدًا، فقط سؤال واحد يجول في خاطرها "لماذا أنا مختلفة عمّن حولي؟"

 سيطر الاكتئاب عليّها، حتى تلك الليلة التي قررت فيها أن تثبت للعالم أن لديها قدرات، وأني ستتخطى كل الصعوبات التي واجهتها، وكانت تحتاج إلى الخطوة الأولى، فقررت الذهاب إلى معالج نفسي، وعنده تحوّلت الأشياء السلبية إلى إيجابية، بحسب ما تقول.

 مرحلة الجامعة كانت فارقة في حياة ميرنا، فقد تقبّلها الطلاب، وأثنوا عليها، ودفعوها دائمًا إلى الأمام، لم يسخر منها أحد، تقبّلها الجميع كما هي، كان محيطاً إيجابياً رفع ثقتها بنفسها، وأنهت دراستها الجامعية واحتصت في البرمجة اللغوية العصبية، ثم أكملت الدرسات العليا في علم النفس.

تقبل الذات

لكن الخطوة الاهم التي اتخذتها هذه اللاجئة الفلسطينية تجاه نفسها هو وقوفها أمام المرآة، بعد أن كانت ترفض ذلك، إلا أنها وقف أخيراً ورأت جسمها بالكامل وقالت: "حسنًا لا يوجد مشكلة، هذه أنا وهذا شكلي، ويجب أن أتقبّل نفسي كما أنا وعلى المجتمع تقبّلي".

MIRNA.mp4_snapshot_00.40.080.jpg

عملت ميرنا مع جمعيات دولية، واختارت دولية لأنها تريد أن توصل رسالة عن التنمر"كلّ شخص مختلف يستطيع أن يصل لا يقف عند نقطة معينة ويقول أنا غير قادر، أو أنا انسان ضعيف، كلا بالعكس أنت شخص قادر وستصل إلى ما تريد، لكن شرط أن تنتبه إلى ما تسمعه دائما وأن تحوّل الانتقادات لدوافع إيجابية"

هذه كانت خلاصة تجربة ميرنا مع التنمر الذي سمعته وجعلته يسيطر عليها فوصلت لمرحلة الاكتئاب.

تحقيق النجاح

ومن خلال عملها مع المؤسسات والجمعيات الدولية، سعت ميرنا إلى إرشاد الأهل إلى الطريقة الصحيحة في التربية، وتعليم أطفالهم بتقبل الجميع، "فالمختلف ليس بالضرورة عاجزاً أو ضعيفاً، فهم مثل غيرهم ينجحون بحياتهم ويسعون نحو مستقبل أفضل" تضيف.

عملت ميرنا مع أكثر من جمعية  في مجال التربية ووتدريب السلوك من بينهم مؤسسة عامل وأطفال الصمود، وحالياً تعمل مع جمعية المرأة، هي فخورة بنفسها وعملع اليوم وتؤكد أن أكبر خطأ يرتكبه الانسان بحقّ نفسه عندما يقول: أنا ضعيف.

تضيف ميرنا أن تقبل أي إعاقة أو اختلاف والتغلب عليها يحتاج إلى دعم كبير من قبل الأهل، وإحاطة بمجتمع رحيم.

MIRNA.mp4_snapshot_04.10.050.jpg

تختم ميرنا مقابلتها مع موقعنا برسالة إلى الشباب الفلسطيني اللاجئ في لبنان، وتقول: "إلى كل الشباب بهذا الوضع الصعب الذي نعيشه الآن، الظروف سيئة جدًا وأعلم أنّ هناك الكثير من خريجي الجامعات لم يجدوا فرص عمل، لا تيأسوا، طالما  عندك نفس طالما هناك أمل، وأنت يمكنك أن تعمل على نفسك وتثبت ذاتك إن لم يكن في لبنان فمن الممكن بأي دولة أخرى، لكن أنت اتبع الفرصة واسعَ وراء نجاحك، لأنّ بداخل كلّ انسان شيءٌ لامعٌ".

 

بوابة اللاجئين الفلسطينيين

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد