ليس اللاجئين سواء في معيار النظام العالمي، فهؤلاء يجري فرزهم الآن على الحدود الأوكرانية- البولندية، حسب الجنسية ولون البشرة والعِرْق.
ولم يتورع مسؤولون حكوميون ونخب إعلامية أوروبية عن إيضاح معيار التمييز، وهو بحسبها يتعلق بهوية هؤلاء اللاجئين و"صفاتهم الحضارية"، وليس بوضعهم أو بطبيعة الظروف التي دفعتهم للجوء، فبكل بساطة تقول المنظومة الدولية المهيمنة لكل إنسان في هذا العالم، أن البشر ليس سواء لا في الحقوق أو الالتزامات تجاههم أو حتى الإجراءات التي تتناولهم.
أجساد الآلاف من اللاجئين الذين غرقوا في البحار أو هلكوا في الغابات وتخطَّفَهم تجارُ الأعضاء، تشهد على رفض المنظومة العالمية منحَهم فرصةً لمجرد النجاة بأرواحهم والوصول لبر آمن لا للنظر في طلباتهم للجوء أو الموافقة عليها، ولمنعهم من الوصول إلى أراضيها جندت الحكوماتُ المهيمنة جنودَها وخفر سواحلها لمنعهم والتأكدِ من توفير ما يضمن هلاكَهم قبل الوصول لأراضيها، كل هذا تم تبريره بعشرات الذرائع المُختَلَقَة آنذاك.
وبينما لايزال آلاف المهاجرين العالقين على الحدود البيلاروسية البولندية في ظروف صعبة، جاءت الأزمة الأوكرانية لتخبرنا هي وذات هذه النخب والنظم أن هناك لاجئين آخرين من نوع مختلف يشبهونهم أكثر مرحباً بهم وعلى هذا العالم بأسره أن يتجند لدعمهم، فتوفرت الموازنات، واختفى صوت اليمين الشعبوي والحركات العنصرية التي حرضت ضد اللاجئين من الدول العربية، وقررت الحكومات والأحزاب الحاكمة يمينها ويسارها أن لديها ما يكفي من القدرة والموارد لاستقبالهم، وتلاشت العقبات البيروقراطية وصدرت القرارات وعُدِّلَت الإجراءات في سويعات لتسمح لهؤلاء اللاجئين الأوكرانيين بحقهم الطبيعي بملجأ آمن من الموت، ذات الحق الخطير على أوروبا والولايات المتحدة وأمنها والذي يهدد قيمها وتركيبتها السكانية وتوازنها المجتمعي حين كان الأمر يتعلق بما يتعارض مع جداول هؤلاء.
من الخطير أن نعتبر أن مرد هذه المواقف انحيازات عاطفية من هذه النخب تجاه العيون الزرقاء والشعر الأشقر، فالروس أيضا والألبان والصرب والكروات الذين مزقت الحروب لحمهم، كانوا من ذات الشاكلة، ولكن هذا التقسيم ينطلق أولاً من أولوية المصالح وجدول الأعمال السياسي الذي اختارته نخبة تهيمن على هذا العالم وتغير معاييره كيفما تشاء دون وازع، وليست أولوية اللاجئ الأوكراني اليوم انحيازاً له، ولكن انحياز لمشروع سياسي اختارته هذه المنظومة التي احتاجت فقط بضعة ساعات حتى تطلق أقوى موجة عقوبات عرفها التاريخ الحديث ضد روسيا بسبب هجمتها على أوكرانيا، ولم تقم بإجراء يذكر ضد مشروع الغزو الصهيوني الذي قام بتهجير شعب بأكمله منذ سبعين عاماً، بل لم تكن جرائم التطهير العرقي وجرائم الحرب التي ارتكبها الاحتلال الصهيوني ضد الفلسطينيين إلا بغطاء من هذه المنظومة، التي لم تكتف بالصمت على الغازي ودعمه، بل وتمادت في ملاحقة الضحية ومعاقبتها، وهو أمر لم تنقطع شواهدُه بل تزايدت خلال الأعوام الاخيرة، في حملة واضحة شنتها عدد من حكومات الاتحاد الأوروبي ومؤسساته تستهدف كل موقف تضامني مع ضحايا العدوان وجرائم الحرب "الإسرائيلية"، وتمتد لتعاقب اللاجئَ والمقيمَ الفلسطينيَ على أراضيها، لا لاعتبار نشاطه في خدمة قضيته، ولكن لتقييمها مسبقاً لإمكانية حمله موقفاً مضاداً لمن قتل شعبه!
جواب العالم اليوم على تهجير الفلسطينيين وغيرهم من شعوب المنطقة هو حصار ضحايا التهجير في قطاع غزة، واستمرار التطهير العرقي بحق الفلسطينيين المشردين من بيوتهم في النقب، و قتل فلسطينيين على طرقات الضفة، ومصادرة أراضيهم وهدم بيوتهم، وممارسة الابتزاز السياسي لتمويل وكالة الأونروا، ما يعني تجويع اللاجئين في المخيمات الفلسطينية وجعل الوكالة سيفاً مسلطاً على مواقفهم تجاه وطنهم (الجوع أو تصمت إزاء الجرائم في وطنك) وتجويع اللاجئين السوريين والعراقيين والأفارقة في مخيمات اللجوء، و تركهم نهباً للقتل والعدوان والقصف، وتمويل وتسليح من يقتلهم وتوفير الغطاء السياسي له في كثير من المواضع.
نحن جموع اللاجئين، المذبوحين على اختلاف ألوان بشرتنا، بتنا نعي أكثر أنه في هذا العالم الناس ليسو سواسية، وأن هناك نوعين من البشر في هذا العالم، هناك قتلة شردونا من بيوتنا وذبحونا جيلاً بعد جيل في كل بقعة أُخرجنا منها، وسيواصلون مجازرهم، وهناك نوعٌ آخر هم ضحايا هذه المنظومة، مقتولين وأسرى ومعذبين، ومجتمعات مهجرة، لم تستسلم أمام أدوات القتل، ولا زالت تناضل ضدها، ولن تستسلم أمام أدوات التمييز العنصري أو تصنيفات الذبح والتهجير.