يواصل الغزاة المحتلون هجمتهم المستمرة منذ حوالي قرن من الزمان على فلسطين وشعبها، وإذ تبرز ردة الفعل الفلسطينية على جرائمهم وعدوانهم في القدس، فإن ذلك لا يمكن فصله عن تصعيدهم لجرائم التهويد والتهجير والقتل في النقب والضفة الغربية بما فيها القدس، والحصار المميت لأكثر من مليوني فلسطيني في قطاع غزة، والتشريد المتواصل لملايين الفلسطينيين خارج ديارهم، ضمن مسار لم ينقطع، هَدَفَ على الدوام إلى نزع حقوق الفلسطينيين كافة.
فالمتاح أمام الفلسطيني في ظل الشرط والرؤية الاستعمارية الصهيونية لفلسطين هو التخلي عن هويته، والاستسلام للتهجير، والخضوع أمام القتل والتنكيل، وقبول العيش في معازل تتقلص تدريجياً، أو مغادرتها طوعاً وغالبا كرهاً نحو المنافي واللجوء.
في هذا لا تدور معركة الفلسطينيين في القدس حول الحق في العبادة أو إنفاذ رؤية معينة تتعلق بإدارتهم للأماكن المقدسة في عاصمتهم، بل هي جزء من معركة وجودهم، ومسيرة نضالهم لأجل العودة وتقرير المصير، وإنهاء مفاعيل مشروع الإبادة الصهيوني الواقعة عليهم، وما مواجهتهم للاحتلال وقراراته ومستوطنيه وسياساته المتمثلة في تهجيرهم وعزلهم وإخضاعهم في القدس، والهيمنة المعنوية والمادية على المدينة ومصادرة وإلغاء هويتها المرتبطة بهم إلا جزء من مواجهتهم الشاملة مع الاحتلال.
وبالأساس تمثل هذه المواجهة نضالاً إنسانياً جماعياً لأجل حقهم في تقرير مصيرهم على أرضهم، يجسدونه بعصيان المحتل، و مقاومة التهجير، و برفض مقايضة حقهم في العبادة أو الوصول للأماكن المقدسة، ومنع العدوان عليها، بحقوقهم الجماعية التي يتمحور حولها نضالهم... سيادتهم على أرضهم ومصيرهم، وكذلك ببنائهم لأدوات هذا النضال، فهذا الصراع يتعلق أساساً بمعادلة قوامها نمو أو انحسار قدرة هذه الجموع على المواجهة والفعل.
ما سبق ليس تقديماً خجولاً لنقد مبطن للمقاربة السياسية الرسمية والفصائلية للصراع، بل مطالبة واضحة ببرنامج سياسي يفي للنضال والصمود الشعبي المتطور في مواجهة المحتل، ويقر بالحقيقة المتناقضة مع مساعي المشروع الصهيوني وهي حقيقة أن الفلسطينيين شعب واحد يواجه ذات المشروع الغازي المعتدي المستعمر، ويتغلب يومياً على أدواته لعزل الفلسطينيين ونفي هويتهم و إلغاء كل معنى لوجودهم، وهذا بالتأكيد لا يمكن أن ينجز بالخطابة، في معركة لا تدور في وسائل الإعلام فحسب، بل على الأرض وفي كل بيت وشارع، ولن تسعف فيها الفلسطينيين مظاهر الاستعراض المسلح أو التصعيد الخطابي تحت سقف برامجي لا يفي بحقوقهم، بقدر الكفاح الجاد بكافة أدواته ضمن برنامج سياسي لهزيمة الاحتلال وردع العدوان المستمر وانتزاع الحقوق في العودة وتقرير المصير.
إن وظيفة العمل السياسي والجهد الفلسطيني الجمعي الوطني، ليس الحفاظ على "الوضع القائم/ الستاتيكو" في القدس، بل العمل على ما من شأنه هزيمة مشروع الإبادة، وهزيمة المحتل، وليس تحسين شروط الاحتلال في جغرافية حدودها الأراضي المحتلة عام 1967.
وهذا ما تؤكد عليه الإرادة الشعبية والفعل النضالي لجموع الفلسطينيين على اختلاف مناطق وجودهم وشتاتهم و منافيهم وبقاع تهجيرهم وحصارهم وعزلهم، هذا الشعب الواحد مصمم على وحدته واستعادته للسيادة على مصيره وأرضه، هذا ما تخبر عنه المقولات الصادرة عن بناه النضالية الشعبية التي يشيدها رغم أنف المحتل، والتي تتجاوز بأبصارها لواقعها وواقع العدوان أيَّ برنامج يذعن لتقسيمات المستعمر للفلسطينيين، ولكل أشكال ومظاهر المناكفة والتجاذب تحت سقف هذا البرنامج.
لم تنهض جنين أو القدس لمواجهة الاحتلال اليوم بينما توقف التهجير في النقب، وسقط الحصار عن غزة، وعاد اللاجئون إلى أرضهم، أو توقفت سياسات المصادرة و القتل والاستيطان والأسرلة، نهضتا ومعهما مدن في الضفة كما في كل مرة لمقاومة كل ما يحدث.
يخوض الفلسطيني هذه المواجهة يومياً، ويواصل بناء أدواته واجتراح بدائله الشجاعة، وإن كان نضاله هذا يتم قمعه ومحاربته من المحتل، والهجوم الوحشي على روافعه وحواضنه، فإنه أيضا يُحاصر بالعجز والفشل السياسي للنخبة السياسية الفلسطينية، على اختلاف أطيافها ودرجات وقطاعات مسؤوليتها.
لا يعقل أن هذا الشعب وفي خضم نضاله، لا زالت منظومته السياسية مصرةً على تغييبه، والتفرد بشأنه، ومحاصرته بعناوين سياسية ماتت منذ زمن، فيما يواصل قاتُله الاستفادةَ من مساحاتِ العجز السياسي لهذه المنظومة، ومن سلوكها الاستعراضي، في ضرب حواضن وقواعد وبنى نضاله الشعبي.
هذه السطور قد تصنف كهجوم على المنظومة الفلسطينية بأطيافها المختلفة، وهي كذلك إلى حد كبير، هذا نقد للإصرار على العجز، والفشل، ولتجاهل احتياجات المواجهة ومن يخوض هذه المواجهة، وما ذلك إلا جزء من التزام بضرورة بناء برنامج وممارسات تدرك دورها في خدمة النضال الشعبي لا كمتسلط عليه، وتمارس واجبها في دعم عوامل الصمود وبنى النضال.