نجدد نعينَا وفخرَنا بالشهيدة وداد قمري، التي مثّلت نموذجاً ملهماً لكفاح شعب فلسطين وهويته النضالية والوطنية، في لحظة تشهد جدلاً وتجديداً لخطابٍ يحاول سلبَ معاني هذه الهوية وجرَّها نحو استقطابات تستنزف مسيرةَ النضال الوطني الفلسطيني وبنيَته، قوامها تصوراتٌ قصوى حول منظومات قيم تتعلق بالحيز الشخصي والفردي، وكأن هناك من يريد القفز على مسيرة طويلة من نضال وطني حضنه أمثالُ وداد وغيرها من رجال ونساء هذا الشعب  (ليلى خالد، دلال المغربي، شادية أبو غزالة، وقبلهن يسرا طوقان وعدلة فطاير وفاطمة أبو الهدى ونجلاء الأسمر) شققن طريق الكفاح دفاعاً عن شعب فلسطين واستلاب حقوقه على يد الغزاة المستعمرين الصهاينة.

 مسيرة نضال دفعت فيها كل شرائح الشعب الفلسطيني الدّمَ والألمَ والمعاناة فداء للمصير المشترك والهوية الجامعة ومشروعِ الخلاص من العدوان والغزوِ والإجرام الاحتلالي.

 تتجاوز أجنحةٌ من شرائح مهيمنةٍ في الخطاب الإعلامي الفلسطيني هذا المسارَ ودروسَه ونماذجَه المتعددة والمتنوعة، و تتجادلُ حول الهويةِ التي تريد فرضَها عنوةً على الفلسطينيين، بخطابٍ استعلائي ينادي بنبذ وإخراج كل من يخالفُ تصوّرَ هذه المجموعات حول هويتها التي ترغبُ بفرضِها على المجموع الفلسطيني، وكأن إدراكَ شعبنِا لهويته يجب أن يبدأَ وينتهيَ عند لحظة "صحوة دينية" لأحدِهم، أو أن يخضعَ هذا الوعيُ المعمّدُ بالتضحيات المشتركة لهويةٍ رجعيةٍ إقصائيةٍ تستلبُ من الجميعِ أيَّ حقٍّ في التمايز عنها.

بينما كان هذا الجدلُ يستحيلُ لصراخٍ هيستيري يهددُ ويتهمُ من يخالفُ منظورَه الضيق، كانت مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان تكابد حرمانَها من توريدِ الخبز إليها لأيام عدة.. تلك المخيمات، التي ناضلت فيها أجيالٌ من المناضلات والمناضلين لأجل أهلها ولأجل شعب فلسطين، وكان الاحتلال يواصلُ جرائمَ قتله بحق الفلسطينيين دون النظر لاختلافاتهم، فمن من المؤكد أن رصاص الاحتلال لا يميز بيننا بالقدر نفسه الذي يسعى إليه هذا الخطاب.

 يتقدم هذا الخطابُ مستفيداً من مواضعِ ضعفٍ وتراجعٍ في نهوض القوى الوطنية بدورها الوطني، سواء في الدفاع عن الحقوق الوطنية أو المعيشية أو الشخصية لهذه الجموع.

 فانسجاماً مع جدل الشرائح المعزولة عن فهم معاناة ونضال شعبها كان هناك من يصيغُ خطاباً باسم فصائل وقوى وطنية يدينُ فيه عملَ نساء شعبنا في مخيمات لبنان في مهن "متدنيةٍ" أو "مهينة" بحسب منظورهم، أو ينتهجُ ذات مسار الردة الرجعية مطالباً بمنع الاختلاط بين الذكور والإناث، وكأن العمل في مهن "مهينةٍ" يقتصرُ على النساء فحسب.

إن دور القوى الوطنية إدانةُ واقعٍ تضطرُ فيه الغالبيةُ من فقراء شعبنا إلى العملِ في ظروف مجحفة أو التعرضِ للجوع، وليس مواجهة هذا العمل، دورها يكمنُ في توفير متطلبات الصمود لهذه الجموع أو قيادة نضالها اشتباكاً مع من يصيغُ وينفذُ سياسات التجويع.

لقد تشكلت هويةُ شعبنا النضالية والوطنية، في تعبيراتها الأكثر جذريةً ووضوحاً كهويةٍ لشعبٍ كافحَ بكافة شرائحه ضدّ الغزو الاستعماري، ورفضَ الرضوخَ أو الخضوعَ لدور الضحية.

 لم تكن هذه الهويةُ قائمةً على تصوراتٍ حول اللون أو العِرق أو الدين،  ورغم تعدد القوى ومراحل مدها وجزرها وما حملته كثيرٌ من هذه القوى من خطاب ايديولوجي، فقد كان اشتباكُ المجموعِ الشعبي مع العدو ونضاله ضد الغزاة، كما النماذج التي قدمتها مختلفُ شرائحِ هذا الشعب في بوتقةِ النضالِ، عنصرَ الجذب والثقل والتصويب للتصورات القصوى لهذه الايديولوجيات باتجاه الانحياز لوعي جمعي يرى في الغزو الاستعماري وما أحدثه من تهجير وتمزيق للشعب الفلسطيني دافعاً أساسياً نحو التجميع واستعادة الوحدة النضالية وحصر الخلاف في إطاره السياسي، بل ومحاولة سدِّ الثغرات وجسْرها بين المواقف السياسية إذعاناً لضرورات الوحدة النضالية.

إن تخيلات شرائح محددة حول قدرتها على صياغةِ هويةٍ مهيمنةٍ على النضال الفلسطيني، ومعاييرَ قيمية قصوى تحدد درجةَ انتماء كل فرد لهذا الشعب حسب سلوكه الشخصي، وتسعى لإدانة وحصر هذا السلوك فيما تراه ملائماً لمزاجها، ما هي إلا أوهام قد جاء الكثير من مثيلاتها من قبل، حاولَ بعضُها تقييدَ الحريات الفردية وفرضَ تطلعاته على مجتمع بأسره، فسقطت.

 واليوم يقدمُ هذا الخطابُ ذاتَه مجدداً بصيغٍ متعددةٍ كبديلٍ عن الهُويةِ الوطنيةِ الجامعةِ والمتعددةِ في مُدخلاتها وفروعها ذاتِ التاريخ في مواجهة أدوات التأثير الاستعماري، ويسعى لمواجهة من يخالفُ مقولاتِه وقناعاتِه حول السلوك الشخصي والحقوق الفردية، وينطلقُ في مساحات عدة، فلا حدودَ لتطرف وتخلف التعريفات التي يضعها لما هو فلسطيني، متجاوزاً بها تاريخَ النضال، بمعظم مناضلي الشعب الفلسطيني وشهدائه الذين قد لا ينطبقُ عليهم تعريفُه المتجني للهوية الوطنية، أو اقتراحاته الإقصائية تجاه من يختلف معه، وحتى تجاه الهوية الوطنية النضالية التي حكمت نضال شعبنا وبنت قواه الوطنية وبناه الاجتماعية على اختلافها.

الهوية الوطنية النضالية المشتبكة مع الاحتلال أكثر ضرورة ونفعاً من استعادة الخطاب التقسيمي المعادي للحقوق، في ظل إدراك وجود مخاطر حقيقية على البنى النضالية والمجتمعية الداعمة لصمود لشعبنا واشتباكه مع العدو الصهيوني، تنتج هذه المخاطر محاولاتٌ ممولةٌ للاستيلاء على مساحة الخطاب الحقوقي، ويسهم في إنتاجها أيضاً عددٌ من الأدوات المتعاونة مع تمويل ذي منظور استشراقي استعماري يسعى للهيمنة على الخطاب الوطني الديمقراطي فيما يتعلق بالحقوق الفردية والعامة، وإدانة وتفكيك بنى النضال الديمقراطي-  الوطني التي خاضت مواجهات طويلة دفاعاً عن الحقوق الفردية إلى جانب انخراطها العميق في معركة النضال الوطني.

هوية هذه الجموع المهجرة في مخيمات الشتات، والمقاتلة في مخيمات غزة والضفة، والصامدة على أرضنا المحتلة عام ١٩٤٨،  كفاحية ونضالية، تتشكل بمسيرة السعي والنضال لأجل العودة والتحرير وتقرير المصير، وتستوعب كافة المكونات المجتمعية، فلا انفكاك أو انفصال بين النضال بطبيعته الوطنية والديمقراطية.

 وما الكفاح ضد الهيمنة والاستغلال ولأجل حقوق المرأة ومكانتها، إلا جزءاً من صيانة لمجتمعنا وبيئتنا الوطنية وتمتيناً لعوامل القوة فيه، وتعزيزاً لقدرته على مواجهة الغزاة، ورهاناً على مستقبل أفضل يستحق الكفاحَ لأجل الوصول إليه، يُزاحُ فيه الغزاةُ عن أرض فلسطين، وتعودُ فيه جموعُ شعبنا لأرضها.

وفي المقابل، إن هذا الخطاب سيُهزم ويسقطُ ويرتدُ كما في كل مرة حاول فيها فرضَ نموذجه الإقصائي ضيقَ الأفق على جماهير شعبنا، واستخدم التحريض في بث السموم التي تمزق بنيتنا الوطنية وتقوض ما أنتجه هذا الشعب مجتمعياً وسياسياً و نضالياً من فضاءات للعمل المشترك في مجابهة الاحتلال.

 نعيشُ معاً ، نقاتلُ معاً، نواجه الغزوَ والإبادةَ والقتلَ معاً، ننتصرُ معاً، نعودُ معاً، باختلافنا وتعددنا ووحدتنا، لنقرر مصيرنَا ومستقبلنَا بإرادة حرة في أرض الآباء والأجداد التي سيحررها النضال الوطني لهذا الشعب العظيم.

 

بوابة اللاجئين الفلسطينيين

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد