ربّما كان "المُخيّم" أحد تجلّيات النكبة الفلسطينيّة التي ارتكبها الاحتلال عام 1948، فتنوّعت صورة هذا المُخيّم في الكِتاب والرواية الفلسطينيّة، وكانت الصورة المأخوذة عن هذا المُخيّم أنّه مكان للفقر والبؤس والشقاء، إلى أن جاء الأديب الفلسطيني الكبير غسّان كنفاني ومزّق هذه الصورة النمطيّة بقلمه الذي عبَّر وعبّأ وحرّض من خلاله كل لاجئٍ فلسطيني مُخاطبًا إيّاه: لك شيء في هذا العالم، فقُمْ.

غسّان كنفاني الذي تمر اليوم ذكرى استشهاده الخمسين، كان من أكثر الكتّاب حرصاً على تغيير صورة المُخيّم النمطيّة، لا سيما بعد فترةٍ قاتمةٍ مرّت بها القضيّة الفلسطينيّة ما بين العام 1948 إلى العام 1967، أي منذ النكبة وحتى عام النكسة، إذ قيل ما قيل عن المُخيّمات وأهلها من اللاجئين الفلسطينيين الذين شكلوا حقاً رمزاً للبؤس والضياع والشتات بعد فقدان أرضهم وطردهم من بلادهم.

كان مُحرّضاً لا يُحب البكائيّات

عن أدب المُخيّم في كتابات غسّان كنفاني، يقول الكاتب والروائي الفلسطيني شفيق التلولي إنّ: غسّان كنفاني من الذين جسّدوا حكاية اللجوء الفلسطيني بدرجةٍ كبيرة، وعندما كتب رواية "رجال في الشمس" وغيرها من الروايات كان يُجسّد الواقع وما اجترحته النكبة الفلسطينيّة وشتات الشعب الفلسطيني في بقاع الأرض، وعندما نغوص في أدبه نجد كيف صوَّر المُخيّم بما يحمله من حكاياتٍ ووجعٍ وألم، بل كان دائماً يستثير فينا ضرورة رفض الواقع والعودة إلى البلاد وأنّ هذا المُخيّم ما هو إلّا محطّة للرجوع والعودة إلى فلسطين.

ويؤكد التلولي لبوابة اللاجئين الفلسطينيين أنّ كنفاني هو أوّل من دعا وحرّض للتمرّد على الواقع الرّث وكان له الدور الكبير في تحريض الفلسطيني على البقاء على هذه الأرض عندما اختتم روايته رجال في الشمس بالقول: لماذا لم يدقّوا جدران الخزّان؟، في إشارةٍ منه إلى أنّنا لا يمكن أن نموت خنقًا أو نستسلم لهذا الواقع ونهرب، بل علينا التمرّد دوماً وهذا ما عالجه في كثير من رواياته القيّمة منها "عائد إلى حيفا".

في أدب غسان.. بعد أن كان المخيم مكاناً للعار والفقر صار وقوداً للثورة

ربما لم يرَ غسان تصاعد الفعل النضالي في بعض المُخيّمات الفلسطينيّة بالضفة وغزة خلال الانتفاضتين وفي السنوات الأخيرة، لكنه كان يستقرئ المُخيّم في مراحله  اللاحقة.

منطلقاً من رواية "أم سعد" يرى الناقد الفلسطيني والمحاضر في جامعة النجاح الوطنية د.عادل الأسطة أنّه منذ عام 1967 أي في أعقاب الهزيمة المدوية (نكسة حزيران وما فيها من فقدان لباقي الأرض الفلسطينية) ، اختلفت صورة المُخيّم في الرواية، فبعد أن كان المُخيّم مكاناً للعار والسرقة والفقر أصبح وقوداً للثورة ومنطلقاً لها والجيل الجديد من أبناء المُخيّمات الذين التحقوا بالثورة صاروا يقتربون العودة إلى فلسطين أكثر فأكثر.

WhatsApp Image 2022-07-06 at 1.42.32 PM.jpeg

يضيف الأسطة لبوابة اللاجئين الفلسطينيين: في قصة "القميص المسروق" فنحن أمام نموذجين مختلفين للفلسطيني، اللاجئ الفلسطيني الانتهازي الذي يتعاون مع موظف وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا" من أجل سرقة طحين الفقراء وبيعه، والنموذج الآخر هو للاجئ فلسطيني بحاجة إلى قميص ليستر فيه ابنه، إلا أنّه رفض التعاون معهما وفضّل المحافظة على شرفه وأخلاقه، لذلك كان غسّان قريباً من اللاجئين، يتحسّس آلامهم ويسمع قصصهم وقضاياهم.

في ذات السياق يُشير التلولي إلى أنّ غسان كنفاني كنموذج حي كتب عن الفلسطيني المقاوم والرافض لفكرة الاستسلام، وهو بمثابة رمزٍ نضالي دافع عن الكلمة حتى آخر لحظةٍ في حياته، ومن خلال كتاباته لم يقدّم المُخيّم بصورةٍ بائسة أو صوّره كمظلمةٍ وبكائيّات فقط بل أسس لفعلٍ ثوري نضالي من خلال هذه المُخيّمات، وهذا ما نشهده اليوم بعد 74 عاماً من النكبة الفلسطينيّة حيث لم تستطع حكومات الاحتلال شطب هذه النكبة المستمرة وخلق كيانيّة بديلة للكيانيّة الفلسطينيّة وهذا كله كان للأدب الفلسطيني اليد الطولى فيه.

عندما كتب غسان عن الجيل الجديد من أبناء المُخيّمات الذين التحقوا بالثورة عدّل من صورتهم السابقة

 بمعنى أن الأدب الذي قدمه كنفاني وغيره من أدباء ذلك الجيل ساهم في تغيير فعلي لصورة اللاجئ الفلسطيني.

يقول الأسطة: إن الصورة الاعتياديّة حول اللاجئ الفلسطيني كانت هي أنّه سيء أخلاقياً وسارق، وأحياناً كان يجري السخرية بالقول "وجهك وجه لاجئ"، لكنّ غسان كنفاني عندما كتب عن الجيل الجديد من أبناء المُخيّمات الذين التحقوا بالثورة، عدّل من هذه الصورة وأبرز صورة مختلفة كلياً لأبناء المُخيّمات الفلسطينيّة الذين أصبحوا وقوداً للثورة وقادة في النضال، وبعد أن كانوا عالة على غيرهم أصبحوا فاعلين، ومن خلال هذه الصورة عدّل غسّان ما كان يُدَّعى على اللاجئين الفلسطينيين في مُخيّمات اللجوء، رغم أنه بدأ رواياته "أم سعد" مثلاً بتوصيف واقع مؤلم.

يشير الأسطة: إذا نظرنا إلى هذه الرواية نجد أم سعد التي تقيم في مخيم اللاجئين الفلسطينيين، كانت تذهب إلى شرفة أحد المنازل وتنظّفه وتتحدّث عن عذابات المُخيّم وأهل المُخيّم وخاصة في فصل الشتاء الذي تتحوّل فيه بيوت المُخيّم إلى مستنقعٍ من المياه، وأم سعد كانت لاجئة تعيش حياة الشقاء التي تنتشر في المُخيّم بشكلٍ كبير جداً، مضيفاً أن زوج أم سعد لم يكن يعمل بل كان دائماً يجلس في المقهى ويشرب الخمر، فأم سعد عاشت حياة الذل ورأت أن المُخيّم يعكس صورة بائسة لحياة الفلسطينيين الذين خرجوا من أرضهم، وهذا الحديث كله قبل انطلاق الثورة الفلسطينيّة في لبنان، وحين انطلقت الثورة قويّة التحق بها ابناها سعد وسعيد وأخذا يتدربان في معسكراتها ويعودان إلى البيت في آخر النهار، لتختلف تماماً مشاعر أم سعد وتنتقل من اليأس والإحباط بعد هزيمة الـ67 إلى الشعور بالفخر الشديد عندما رأت أفعال الجيل الجديد من أبناء المُخيّم وخاصّة أبناءها.

WhatsApp Image 2022-07-06 at 1.42.33 PM.jpeg

وانطلاقاً لما تشهده اليوم المخيمات الفلسطينية في الضفة الغربية خاصة من حراك نضالي رغم أنه مستهدف في كثير من الأحيان، يرى الروائي شفيق التلولي أنه الآن   نستطيع القول: إنّ غسّان كنفاني ما يزال حياً بأدبه وبرؤيته العميقة التي قدّمها للفعل النضالي الفلسطيني ولكل حالة اللجوء، خاصّة وأنّه كان يصر دائماً أنّنا لا يجب أن نستسلم ويجب أن ندافع ونقاوم وصولاً إلى العودة إلى فلسطين.

غسّان هو المخيم، وأوّل من كتب المخيم وشخصياته وكأنها على المسرح

أدرك غسان كنفاني منذ وقت مبكر من اللجوء، أهمية المخيم وما يمكن أن يقدمه في سيرورة النضال الفلسطيني، فـ "هو أول من كتب عن المخيم" يقول الناقد والأديب اللبناني الياس خوري.

في مقابلة مع خوري لمجلة رمّان الثقافية، رأى أنّ غسّان هو المخيم، وأوّل من كتب المخيم وشخصياته وكأنها على المسرح، شخصيات "رجال في الشمس" كأنها على المسرح، و"عائد إلى حيفا" تأمل أحداثها كأنها على مسرح، فأنت أمام مكان استجمعت فيه عناصر الحكاية الفلسطينية، وما علينا نحن الروائيين الذين أتينا بعد غسان كنفاني سوى أن نَفرط هذه العناصر ونتوسع بها ونعيد كتابتها، وهذا دليل على أنه معلمنا، وهو لمعة لحظات فنية كبرى، ويجب أن نحبه كما هو، وأهم شيء أن نتعلم منه كما هو.

ويُشير خوري إلى أن غسان كنفاني هو أهم من صنع اللغة والحدثية الفلسطينية، ومعه محمود درويش، فغسان كنفاني رسم الرموز الأولى التي لها علاقة بالأرض، مثل البرتقال، رسم الربط الأول مع الفلسطيني الذي طرد من بلده، "غسان هو بدايات الأدب الفلسطيني وأستاذنا جميعنا".

ويُؤكَّد خوري على أنّ أهمية غسّان تكمن في طرحه علينا أسئلة كبرى، إن كان في "رجال في الشمس" "لماذا لم يطرقوا جدران الخزان؟" أو الأعمال التي تطرقت إلى معنى الهوية، ولهذا غسان هو الوعاء الأول الذي ينتدب في الأدب الفلسطيني، وبالتأكيد بعد غسان هناك روائيون يلعبون دور أساسياً مثل إميل حبيبي وجبرا إبراهيم جبرا، الذين أعطوا إيقاعاً للمعنى الفلسطيني على مختلف المستويات.

 

أحمد حسين- صحفي فلسطيني

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد