يخطو "جو بايدن" في جولته بالمنطقة فوق لحم الفلسطينيين وحقوق جموعهم المهجرة من بلادها وأراضيها، مؤكداً إصراره على العداء لكل معاني وجودهم في سبيل تحقيق رؤية فاشية معادية للإنسانية حول مصالح الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة.
أياً كانت المحطاتُ أو الأوضاع التي مر بها الفلسطينيون منذ بداية اشتباكهم المباشر مع المشروع الصهيوني، فقد اتخذت الولايات المتحدة الأمريكية على نحو ثابت سياساتٍ تعمل على دعم عدوِّهم وصانعِ نكبتهم، ومنذ تهجيرهم ساهمت سياساتُ الولايات المتحدة كمهيمن على النظام العالمي والمؤسساتِ الدولية بمنع عودة اللاجئين الفلسطينيين لديارهم وادامة تشردهم وظروف عيشهم المرير، وقد عملت الولايات المتحدة بشكل حثيث على فرض تسويةٍ تهضمُ حقوقَ الفلسطينيين وتُسقِطُ حقَّ أغلبيتِهم أي جموع اللاجئين بالعودة إلى وطنهم فلسطين.
ولكن السياسة الأمريكية تجاه الفلسطينيين وقضيتهم، اتخذت منحى جديداً أكثر عدوانية يتمثل في دورها المباشر بالسعي لتصفية وجود اللاجئين الفلسطينيين، فلقد تجاوزت المواقف الأمريكية في العقد الأخير موقعَ الانحياز لرؤية الغزاة الصهاينة بشأن اللاجئين الفلسطينيين، وباتت تدعو وتعملُ بشكلٍ واضحٍ وصريحٍ ولا لبس فيه على إنهاء وجود اللاجئين وسحب الاعتراف بوضعهم، أي بوجودهم كلاجئين، والعمل من خلال جملةٍ من القرارات والسياسات في حيِّزِ تعاملها مع المؤسسات الدولية على تفكيك مخيمات اللاجئين الفلسطينيين وإنهاء وجود مجتمعاتهم الماديّ والإنساني، بمعنى شطب وجودهم وحقوقهم في آن معاً.
لم يكن هذا بمعزل عن إجمالي السياسة الأمريكية تجاه الفلسطينيين، والتي أعلنت خيارها ببناء تحالف بين النظم العربية والكيان الصهيوني يتجاوز الفلسطينيين وقضيتهم ومطالبهم، وحتى مسار التسوية السابق الذي حاولت فيه فرض حل ينتقص من حقوق الفلسطينيين ويسلب معظمها.
ماذا تفعل الولايات المتحدة لانهاء وجود اللاجئين الفلسطينيين؟
- صاغت الولايات المتحدة خطتها السياسية المعروفة باسم "المبادرة لأجل السلام والازدهار في الشرق الأوسط" لتدعم تأكيد استمرار الاحتلال لمعظم أراضي فلسطين بل وتوسيغ رقعة مساحة ضم الكيان الصهيوني النهائي لمزيد من الأرض الفلسطينية، بمعنى حرمان مزيد من الفلسطينيين من أرضهم، وتهجيرهم لمصلحة المستوطنين الصهاينة، وإسقاط حق اللاجئين في العودة لأراضيهم وإزاحته عن الطاولة السياسية نهائياً وعدم الاعتراف بوضعهم كلاجئين.
- في ذات المسار باشرت الولايات المتحدة الأمريكية سياسات تعمل على إنهاء وجود وكالة "أونروا" بما يمثله هذا الوجود من اعتراف بالمسؤولية الدولية عن تهجير الفلسطينيين ونكبتهم، كجزء من هجوم واسع شنَّه الساسةُ الأمريكيون ضد اللاجئين الفلسطينيين، منكرين وجودَهم بتقليص أعدادهم في التقديرات الأمريكية لما دون عُشر عددهم الحقيقي، وداعين إلى نقل ملفهم للمفوضية الدولية السامية للاجئين، كأداة لإغلاق هذا الملف بصورة نهائية.
- قطعت الولايات المتحدة مساهمتها لـ "أونروا" وضغطت على عدد من دول العالم لوقف الدعم المالي الذي تقدمه للوكالة، في مسعى لفرض حصار وتجويع شامل وقاتل على اللاجئين الفلسطينيين بما أفضى ولا يزال إلى انهيار في قطاعات حيوية رئيسية وخلق ظروف مميتة في المخيمات الفلسطينية وتجمعات اللاجئين، قادت لقتل - ليست وفاة بل قتل- آلاف من اللاجئين بالعدوان المباشر ومسالك التهجير وقوارب الموت و صعقات الكهرباء وسوء التغذية وغياب الرعاية الصحية.
- غطت الولايات المتحدة ودعمت سلسلة المجازر الوحشية التي ارتكبتها الآلة العسكرية الصهيونية المسلحة أمريكياً، ضد مسيرات العودة عام 2011 على الحدود السورية واللبنانية مع فلسطين ومن ثم عام 2018 على الحدود الشرقية لقطاع غزة، التي مثلت محاولةً من جموع اللاجئين الفلسطينيين المحاصرين في قطاع غزة لتأكيد مطالبهم بالعودة لقراهم ومدنهم.
تعميم المجزرة .. تعميم التهجير
لا تنفصل السياسات الأمريكية المعادية لحقوق اللاجئين الفلسطينيين والنشطة في شطب الحقوق والوجود الفلسطيني عن السياق العام لسياسات الولايات المتحدة في المنطقة، وما جاءت زيارة "جو بايدن" لتدشينه واعلانه، ليس سوى إعلان إخضاع بلاد العرب واستباحتها وتجنيد مواردها للاستخدام الأمريكي والصهيوني في حروبها وسياساتها الأمنية الموجهة أساساً ضد شعوب المنطقة.
هذا التحالف تتسابق النظم العربية للانضواء فيه، معلنة الخضوع له أملاً في الحفاظ على بقائها رغم إرادة شعوبها، مقابل وضع جغرافيتها، وشعوبها، تحت رحمة المنظومة الأمنية الصهيو - أمريكية ، وفي خدمة مشاريع العدوان والأولويات الأمنية للكيان الصهيوني و"الحليف" الأمريكي.
إن مشاريع التحالف والحشد العسكري، أرضية خصبة لإغراق المنطقة بمزيد من الحروب والعدوان، وإهدار مواردها وأرواح أهلها في حروب التدمير الذاتي، لا يستفيد منها إلا الغازي المستعمر، ولن ينتج عنها إلا مزيد من الإفقار والتجويع والموت، ومزيد من السيطرة الأمنية والاقتصادية والهيمنة على الموارد العربية المسلوبة اصلاً، وإعاقة شاملة للتنمية والإنتاج وإمكانيات التحرر الوطني والاقتصادي والاجتماعي، في سياق سيحيل المنطقة العربية لساحة للمستوطنات والقواعد الأمنية والعسكرية والاقتصادية للكيان الصهيوني وللمستعمر الأمريكي، وأمام كل مستوطنة سيكون هناك مخيمٌ لاجئين أو ما يشبهه من معازل البؤس والفقر.
على مدى التاريخ لم تنتج الحروب الاستعمارية والتحالف مع المُستَعمِر الازدهار أو السلم والأمن الذي يتشدق بهم "بايدن" في محطات زيارته للمنطقة، بل تجلب الموت والفقر والتشرد والفرقة والعداوات والتناحر والاستعباد.
وما ينتظر معظم من ستطالهم هيمنة هذا التحالف هو حياة البؤس والهوان واستلاب الحقوق، دون شيء من الأوهام التي يتحدث ويعد بها الغزاةُ اتباعَهم من نظم التطبيع، فلن ينال الحظوة لدى المستعمر الغازي الا كل مستبد وذو منشار ومتعاون ضد شعبه ومساهم في سلب الموارد وتثبيت نظام النهب والاستعباد والهيمنة.
لنرفض الموت ونصنع البديل
إن رفض الخضوع لمسار الهيمنة والعدوان لا يتعلق بالموقف من الضحايا السابقين لهذا العدوان من سوريين وفلسطينيين ويمنيين وعراقيين وغيرهم، ولكن برفض كل إنسان عربي أن يطاله هذا العدوان والموت، والبحث عن مصير أفضل، وهو أمر لن يتحقق إلا بشكل مشترك يؤمن فيه أكبر مجموع شعبي في هذه المنطقة بإمكانية حقيقية لنضال مشترك يقود للتخلص من المستعمرين والغزاة وعلاقات التبعية، وبناء مستقبل تكون مفرداته التعاون والإخاء والازدهار والعدالة وحسن توزيع الموارد وتحقيق المساواة.
إن مستقبل شعوب هذه المنطقة، من عرب وجيرانهم، لن يتحقق بمجرد مواجهة المُستعمِر أو التصدي له شعبياً وعسكرياً، ولكن بالأساس في بناء البديل عن نموذج الهيمنةِ والتسلط واحتلال أرض الغير والغزو، ورفض منطق المُستعمِر، لا هويته أو لونه فحسب، بل إسقاط النموذج الاستعماري وما صنعه وأدواته من الحكام المستبدين من قمع وموت ودمار وتهجير وتعطيل للتنمية وتجويع وتجهيل، لن يأتي إلا باستعادة قوة الشعوب وتضامنها وإعلاء نماذج التضامن النضالي الإنساني والعربي التحرري، وتوسيع حضورها وتأثيرها، فالمواجهة وهزيمة المُستعمِر مهمةٌ لن تنهض بها شريحةٌ مهيمنةٌ أو تحالفٌ عسكري، ولكن شبكة تحررية شعبيةٌ لا حدود لقدرتها على الحشد والاستقطاب ووَصلِ كل بؤر وأشكال النضال ضد العدوان ولأجل الحرية والعدالة والمساواة واستعادة الموارد المنهوبة على يد الغزاة وأدواتهم ووضعها في خدمة الشعوب.
نؤمن حقاً أن سبيل عودة اللاجئ الفلسطيني لأرضه، هو نضالٌ مشترك عربي أممي يؤمن بحق كل إنسان في حياة عادلة حرة كريمة وحق الشعوب في تقرير مصيرها على أراضيها، وبأن مصير شعوب هذه المنطقة وفي القلب منها الأمة العربية هو مصير مشترك، وأن إمكانيات المواجهة والانتصار والتنمية والتحرر، متاحة تحملها هذه الشعوب وتناضل لأجلها بأشكال مختلفة، ويمكن أن يستعيد ارتباطها ويوقف استنزافها ويحشدها ويركزها الإيمان العميق بالحق والحرية والعودة و التحرر والعروبة كنموذج لهوية إخاء إنساني قادرة على كسر حواجز وقيود الاستعمار وبناء المستقبل لهذه الشعوب، كسر المشروع الصهيوني واستعادة أرض فلسطين وعودة لاجئيها ومنع مد مشروع الاستعمار لأي بقعة في المنطقة.