لم يكن ما وقعته قيادة كيان الاحتلال الصهيوني مع قيادة مشروع التحرر الوطني الفلسطيني برعاية أمريكية في أيلول/ سبتمبر 1993 اتفاقاً انتقالياً، بل أداةً لحسم الصراع، وتحقيق ما عجز عنه المشروع الصهيوني طيلة قرن من العدوان على شعب فلسطين.
أولاً، انتزاع الاحتلال من الشعب الضحية الاعترافَ بشرعية كيانه الاستعماري على أرض هذا الشعب من خلال اعتراف منظمة التحرير بسيادته على 78 % من أراضي فلسطين التاريخية، وثانياً تهميش قضية اللاجئين التي تعتبر صلب هذا الصراع وجوهره، وثالثاً تفكيك المشروع الوطني الفلسطيني ووحدة الشعب الفلسطيني بالداخل والشتات، وتحويل قيادة المشروع الوطني المهيمنة لأداةٍ في حراسة الاحتلال وربطه مصلحياً بالمشروع الصهيوني.
حسب نص الاتفاق أخضع اتفاقُ "أوسلو" السلطةَ الوليدةَ لجهاز الحكم العسكري الصهيوني، الذي نقل إليها جزءاً من صلاحيات ما يسميه "الإدارة المدنية"، بينما قوّض بنى مشروع التحرر الوطني الفلسطيني، وصنع سياقاً لتفكيك كل تلك الأدوات والروافع التنظيمية التي استند لها الشعب الفلسطيني في مقاومة التصفية. عشرات الآلاف من أبناء المخيمات المناضلين في الوطن والشتات الذين انتظموا في صفوف الثورة الفلسطينية حكم الاتفاق بانتقالهم لمكافحة المقاومة، والارتباط اقتصادياً وسياسياً بمسار التنسيق بين "سلطة الحكم الذاتي" والكيان الصهيوني، في ظل وهم من انخرط فيه من الفلسطينيين بإمكانية أن يكون الاتفاق بدايةَ الطريق لإقامة "الدولة الفلسطينية".
أخفقت الاتفاقية قطعاً في حفظ الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، وخاصة حقوق اللاجئين، وقوضت تنظيمهم الذاتي والوطني، فقد سلبت بمفاعيلها والسياقِ الذي صنعته من منظمة التحرير صلاحياتِها، ونقلت القرارَ والمواردَ لسلطة تخضع لأحكام الاتفاق والاحتلال، وأفقدت الفلسطينيين المشتتين في الخارج صلتهم التاريخية بالجسم الذي تولى تمثيلهم وقيادة كفاحهم الوطني.
مزّق الاتفاقُ شعبَ فلسطين الذي كافحَ طويلاً لأجل وحدته، صحيح أن الفلسطينيين لم يصطدموا آنذاك على خلفية تقسيمة جغرافية، ولكن الاتفاق تخلى عن فلسطينيي الأرض المحتلة عام 1948 وأسقطهم من تعريفه للشعب الفلسطيني، وأجّل وهمّش وقطعَ الصلةَ بين التمثيل الفلسطيني وجموع اللاجئين في الشتات، واختزلَ مسمى شعب فلسطين في الموجودين فقط داخل الضفة وغزة.
وفي الضفة الغربية المحتلة غطّى الاتفاقُ الاستيطانَ وسمحَ بتمدده، وقيّد أيدي الفلسطينيين عن مقاومته، بل واستخدم بناهم الوطنية القديمة و رمزيتها كأدوات قمع مادي ورمزي ومعنوي ضد هذه المقاومة.
صحيح أن شعب فلسطين ليس أول ضحية لمشروع استعماري، أو لغزو عبر التاريخ، ولكنه واحد من تلك الشعوب التي تميزت بمقاومتها لمحاولةِ الإبادة وتصفية الوجود والهوية، وبقدرة اللاجئين الفلسطينيين -وهم أغلبية شعب فلسطين الذي هجره وشتته العدوان الصهيوني- على تنظيم الذات والدفاع عن الحقوق واستحضار الهوية الوطنية كعامل أساسي من عوامل الصمود، التي تمحورت في دورها حول معاني العودة ورفض التهجير والتصفية وما أحدثته النكبة وما سعى له الغزو الاستعماري الصهيوني.
و بعد مرور أكثر من ثلاثة عقود على توقيع اتفاق أوسلو سقطت كل الادّعاءات السياسية المصاحبة للاتفاق ولمسار التسوية المزعوم، إذ كرّس الغزاةُ الصهاينةُ رؤيتَهم بوضوح، ضم الأرض وتهجير السكان وحشر ما تبقى منهم في معازل، يديرها وكلاء محليون بصلاحيات وامتيازات محدودة يقايضونها بدرجة التزامهم واجتهادهم في حفظ أمن الاحتلال والاستيطان، وتغطية عمليات التهجير، فقد تضاعف الاستيطان عدة مرات بما نسبته 400% منذ عام 2000 ، وقتل الاحتلال واعتقل عشرات الآلاف من الفلسطينيين منذ توقيع "أوسلو".
باب التطبيع العربي مع الاحتلال لم يكن ينتظر انهيارَ الموقف الرسمي الفلسطيني ليفتح، ولكن الاتفاق ومسار التنسيق والتطبيع بين السلطة والاحتلال سمح لكل ما كان يجري تحت الطاولة بالخروج علناً، ومنح المطبعين ذخيرة نقلت العلاقات بينهم وبين الكيان الصهيوني من دائرة التطبيع لدائرة التحالف.
ومن باب الخطأ ومعاندة الحقيقة أن تُنسب مظاهر الصمود والمقاومة التي أنتجها الشعب الفلسطيني بعد أيلول/ سبتمبر 1993 وصولاً ليومنا هذا الى الاتفاق، فالمسار الذي أنتجَ الصمودَ وتشبثَ بالأرضِ وحافظَ على الوجود، وعملَ على مقاطعة كيان الاحتلال، كان النقيضَ الشعبيَ لأداةِ ومسار التصفية.
وإذا كانت مجتمعاتُ الفلسطينيين الممزقةُ أثر النكبة وماتلاها من نكبات قد استطاعت جمعَ أشلائها وإنتاجَ تنظيمِها وسياستِها ومقاومتها، فإن شعبَ فلسطين الذي ضربته أدواتُ التسوية بشدة، لم يخضع، واستحضر كلَّ ما في جعبته من تجارب ورصيد من الخبرة النضالية، وعملَ على إعادة البناء للهوية وأدوات الفعل، فوحدة الهتاف وتزامن المظاهرات وشمول الهبّات في كل أماكن وجود هذا الشعب، هو ملمحٌ أساسيٌ لاتجاه وإرادة الشعب الذي حاولت منتجات أوسلو تغييبه وسرقة تمثيله.
هذه الملامح على أهميتها لا زالت تكافحُ لاستعادة وترميم بناها التنظيمية وتطوير شبكة نضال وطني فلسطيني متصلة وممتدة لكل شبر يقف فيه فلسطينيٌ مدافعٌ عن حقوقه وقضيته، وهي ما ستنتجُ خياراتٍ وطنية لتجاوز اتفاق "أوسلو" ومخرجاته، واستعادة النضال الوطني الفلسطيني لطبيعته التحريرية وغايته في تحقيق العودة وتقرير المصير للشعب الفلسطيني على كامل أرضه.