قبل أيّام فقط كانت ضحكة أحمد الحاج وأخاه نور وصديقيهما رواد ومحمود تملأ أرجاء مخيم شاتيلا، فرغم ضيقِ مساحة المخيم، والحرمان والتضييق إلّا أنّه كان أوسع على أجسادهم النحيلة من البحر المتوسط.
أزقّة المخيم البائس بكلّ المقاييس في جنوبي العاصمة اللبنانية بيروت توشّحت بالأسود، كيف لا، وقد ابتلع البحر المتوسط أحلام أربع من أبنائها قرروا ركوب قوارب الموت على أمل الخلاص من التهميش والحرمان في المخيم، والوصول إلى أوربا في ظل انهيار الوضع الاقتصادي والاجتماعي في لبنان.
لم يكن الشاب أحمد عبد اللطيف الحاج البالغ من العمر 17 عاماً وشقيقه نور البالغ من ال عمر21 عاماً يعرف ان أحلامهم في الهجرة لإعانة والدتهم واشقائهم بعد وفاة والدهم منذ خمس سنوات، ستغرق في البحر المتوسط لتطفو مع جثثهم بعد أن تاجر بدمهم مهرّبو بشر أقل ما يمكن وصفهم بالمجرمين.
أحمد الذي حمل يوم الأحد 25سبتمبر/ ظهرًا على الأكتاف ملفوفًا بعلم بلاده التي هجّر منها "فلسطين"، جال نعشه للمرة الأخيرة في الحارات التي لعب بها وهو صغير، ودّع أصدقاءه للمرة الأخيرة، غادر حضن أمّه للمرة الأخيرة دون لقاء مرتقب كما وعدها عندما ودّعها الثلاثاء الماضي قبل ركوب البحر...
كلّ شيء سار بسرعةٍ هائلة، الجنازة كانت سريعة كما الموت واختطاف حلمه، كذلك رحلته من اللجوء الى الحياة الكريمة كانت سريعةً جدًا، فقط خمس ساعات وانتهى حلم أحمد، وبدأت نكبة عائلته، التي لم يلتئم جرحها بعد، الوالد توفي قبل خمس سنوات في حادث سير تاركًا خلفه ستة أولادٍ صغار، ثلاثة بنات وثلاث شبّان، بقيَ منهم فقط محمد الابن الكبير.
دفنته تحت التراب وهو لم يكمل السابعة عشر من عمره، أحمد الذي لم تستطع تقبيله للمرة الأخيرة لأن جثّته متحللة
كان الحلم مختلفًا عن الواقع المرير، كان الطموح عاليًا جدًا، هناك في أوروبا سنصل ونعمل شهاداتنا الدراسيّة، سننتشل أمّي وإخوتي من الفقر والحرمان، سنؤسس حياةً كريمةً تليقُ بنا، فقط هذه هي المخططات التي حملها أحمد ونور قبل أن يغادرا لبنان في قارب الموت.
العائلة مفجوعةٌ بالكامل، لا يمكن للكلمات أن تصف المشهد، الأمّ التي تجمّدت الدموع في عينيها، تتمتم فقط في شفتيها بعبارات الرضى والتسليم بقضاء الله، وتودّع فلذة كبدها أحمد بهدوء، وعقلها لم يستوعب حجم الكارثة بعد، فبمن تفكّر بأحمد الذي دفنته تحت التراب وهو لم يكمل السابعة عشر من عمره، أحمد الذي لم تستطع تقبيله للمرة الأخيرة لأن جثّته متحللة، أم تفكّر بابنها نور الذي ما زال حتى اللحظة مفقودًا!
جثّة أحمد تمّ التعرف عليها وفق عمّه محمد الحاج فقط من خلال خاتم بيده وأسنانه، فيما لم يستطيعوا التعرف على أخيه نور، وكلّما سمعت العائلة أنباءً عن العثور على جثث جديدة تتوجه مباشرة إلى مدينة طرطوس للتعرف على ابنها وحتى الآن لم تجده!
عمّة أحمد ونور حاولت الحديث مع "بوابة اللاجئين الفلسطينيين"، حاولت أن تنقل لنا جمال أحمد ونور، حاولت أن ترسل لنا رسالةً معاكسة للموت الذي نحن في حضرته، العمّة إيمان قالت لبوابة اللاجئين الفلسطينيين: " ضحكته جميلة جدًا، آخ يا أحمد، لم أعلم بسفرهما، عاشا يتيمين وماتا باكرًا، كان فقط يفكّر بحياةٍ أجمل لمساعدة أمّه وإخوته، موتهما حرقةً في قلبي!"
المخيم بأسره فُتح للعزاء، والألم لم يعتصر قلب أقربائه فحسب
كذلك الجدّ الذي فُجِع قبل سنوات بموت ابنه، توقّع أن يدفن هو فوقه، لم يتخايل للحظة أن يدفن أحفاده بيديه، يقول الجدّ مرعي الحاج لموقعنا" قبل فترةٍ ذهب أحمد إلى طرابلس وحاول الهجرة ولم ينجح، استحلفته بالله أن يعدل عن قراره قلت له يا جدّي سأبيعَ دمي لتسافر بطريقة آمنة، ووعدني بأنه لن يسافر، تفاجأتُ بسفره هو وأخاه نور، ماذا سأقول، الغصّة كبيرة!"
العزاء لم يكن في بيت أحمد فقط، بل المخيم بأسره فُتح للعزاء، والألم لم يعتصر قلب أقربائه فحسب، الجميع في حالة صدمةٍ، الشباب لم يتمالكوا أنفسهم، لم يصدّقوا ما حدث، فقبل ساعات كان أحمد ونور بينهم، يتمازحون يتحدثون يخططون يتقاسمون الهمّ والفرح معًا، واليوم هم يسيرون في جنازة واحد ويدعون للثاني بالسلامة، يقول صديقه جمال أبو جاموس" ماذا أقول، رفيق عمري راح، كنّا يوم الاثنين مع بعضنا أخبرني بأنه سيهاجر وطلب مني الدعاء، ولقد دعوتُ له."
https://fb.watch/fPYeOuESa5اللاجئون الفلسطينيون في #مخيم_شاتيلا يتجمعون حين وصول جثمان الشاب أحمد عبد اللطيف الحاج الذي قضى في غرق مركب طالبي اللجوء قبالة ساحل #طرطوس #مركب_الموت
Posted by بوابة اللاجئين الفلسطينيين on Saturday, September 24, 2022
غصّ جمال وكلّ الشباب الجالسين بجانبه، شابٌ يعرف أحمد أكمل عن جمال، " نحن الفلسطينيون مكتوبٌ علينا الشهادة في فلسطين وخارجها، أحمد لم ينال حياةً مثلما حلم بل أجمل، نحنُ فرحون له".
أبناؤنا وفلذات أكبادنا يموتون في البحر بسبب تقصير المرجعيات الفلسطينية كافّة
هذه الفرحة هي ذاتها الأمل الذي تحدّثت عنه فاطمة اسماعيل، التي قالت لبوابة اللاجئين الفلسطينيين:" نحن نعيش على أمل، حياة الفلسطيني كلها مرهونة بالأمل، الأمل بغدٍ أجمل، ونظرت إلى الشباب وتابعت" ما مستقبل هؤلاء الشباب، من يسأل عنهم، الجميع تخلّى عنّا!"
أبناؤنا وفلذات أكبادنا يموتون في البحر بسبب تقصير المرجعيات الفلسطينية كافّة وعلى رأسهم وكالة "أونروا"، يضيف مسؤول جمعية الشفاء في بيروت محمد حسنين، "الشباب فضّلوا المغامرة بأرواحهم على أن يعيشوا تحت الذلّ والقهر في المخيمات".
هذه الفاجعة ليست الأولى وقد لا تكون الأخيرة، فحياة اللاجئ الفلسطيني في لبنان باتت معروفة، يهرب الفرد منهم من موتٍ إلى موت، وبين هذا وذاك ربّما ينجو أحدٌ وتكتب له حياة جديدة كريمة، هذا الاحتمال الضئيل وفق جميع الأهالي يدفع اللاجئين والشباب إلى سلك هذا الطريق الخطر.