عندما أصدرت الأمم المتحدة قرارها (القرار 32/40 ب) الخاص بالدعوة ليوم دولي للتضامن مع الشعب الفلسطيني، حددت هذا اليوم في  29 تشرين الثاني/ نوفمبر ذكرى قرار التقسيم "القرار رقم ١٨١ للعام 1947"، مكرسة تناقضاً أساسياً، فمن جانب تقر بوجوب التضامن مع الفلسطينيين ودعم حقوقهم وتقرن ذلك بذكرى قرارها المجحف بحقهم، تُؤرخُ به توقيتاً لمحطة أساسية في صناعة مأساتهم لكنها أبداً لم تراجع هذا القرار، ولم تقر علناً بالإجحاف الهائل الذي اقترفته بحقهم، أو بمسؤوليتها بصفتها الاعتبارية أو بمجموع الدول المهيمنة فيها عن معاناة وتشريد شعب بأكمله.

قرار التقسيم لم يكن مجرد قرار مجحف بشأن نزاع قائم بين طرفين، ولكنه تعبير عن العنصرية والاستعلاء لقوى ومنظومات الغزو والاستعمار، وعن المنطق الذي حكم -وما يزال- سياساتها في إدارة هذا العالم، قرار بانتزاع الأرض من أصحابها الأصليين ومنحها للغزاة لمجرد أن أقطاب الاستعمار الغربي أرادوا ذلك، وبفرض نظام فصل عنصري وإبادة عرقية يقومان على قاعدة هذا التقسيم.

 بكل بساطة اعتبر المستعمرُ الغربيُ أن بوسعه تقسيم الناس والتاريخ والجغرافيا وفصل الناس عن أرضهم ومرابع عيشهم وقبور أسلافهم، وحين تحيي الأممُ المتحدة اليومَ الدولي للتضامن مع الشعب الفلسطيني فإنها تستخدمُه كمنصةٍ لإلحاق المزيد من الظلم والاضطهاد بالفلسطينيين، وتغطية وحماية ودعم عدوان الصهاينة، حيث أن جدولَ الأمم المتحدة لهذا اليوم يتكرسُ في مجموعة من الندوات وورش العمل حول "صناعة السلام في الشرق الأوسط"، وكأن هناك حرباً مجهولة الأسباب قد اشتعلت فجأة بين أطراف مجهولة، وليس حرب إبادة شنّها غزاةٌ مسلحون بدعم غربي استعماري وغطاء دولي قدمته الأمم المتحدة ذاتها بقرار التقسيم.

هذا التضامن الذي يقتصرُ على الدعوة لـ "السلام"، أي دعوة الفلسطينيين للاستسلام للذبح والإبادة العرقية والفصل العنصري والاضطهاد وسلب الأرض، يختلف طبعاً حين تكون البشرة بيضاء، فالتضامن مع أوكرانيا على سبيل المثال يعني حصار روسيا ومعاقبتها وإرسال سلاح بمليارات الدولارات للجيش الأوكراني، أما فلسطين ولاجئوها الذين صنع الغربيون نكبتهم لن يحصلوا على السلاح بالتأكيد، ولكن على سلسلة لا تنتهي من إجراءات الحصار والعقاب، وهنا يجب التذكير أن لجاناً خاصة من الأمم المتحدة هي شريك كامل في الحصار المفروض على الفلسطينيين، وعلى واحدة من أسوء منظومات العقوبات المالية غير المعلنة التي تهدف لتجويع الفلسطينيين، وكذلك عن منع تدفق مواد كافية بإعادة إعمار قطاع غزة.

حق الفلسطينيين في الحياة والنجاة من الموت، في أرضهم أو في مخيمات اللجوء، لا يمكن مقارنته بحق ساسة ونجوم رياضيين غربيين في الدعاية لقناعاتهم بشأن الممارسات الجنسية، في دول ومجتمعات لا تشاطرهم ذات القيم ففي المعيار الغربي هذه قضية حريات وحقوق أما حق الفلسطينيين في الحياة فهي صراع يجب تسويته من خلال إجبارهم على "سلام في الشرق الاوسط"  يلائم شروط الاستسلام التي تفرضها "إسرائيل" و يذيعها حكام العواصم الغربية.

 في ملاعب كرة القدم يبدو الغربي في حديثه عن الحقوق ممثلاً هزلياً في مسرحية سخيفة، فالوفور المالي الذي تقوم عليه صناعة كرة القدم ونجومها وتأثيرهم لم يكن لولا ذلك النهب الاستعماري المنظم والمستمر لشعوب الشرق والجنوب، وكأن لسان حال الغربي يقول: بوسعنا أن نقتلكم وننهب بلادكم و نحتقركم ولكن عليكم الالتزام بمقولاتنا باعتبارها "حقوق الإنسان"، ربما هنا المقصود بالإنسان ليس الفلسطيني أو العربي عموماً، أقله هذا ما تعبر عنه الممارسة الغربية سياسياً وثقافياً واقتصادياً.

يمكن القول دون مجافاة كبيرة للحقيقة: إنه منذ إعلان يوم التضامن الدولي مع الشعب الفلسطيني حصل الفلسطينيون على التضامن دوماً مع جثثهم التي تنزع "إسرائيل" أرواح أصحابها، وهو تضامن دون تحديد لهوية الفاعل، ودون ذكر لإمكانية عقابه ومحاسبته، وفي المقابل تم تقويض قدرتهم على الصمود وحصار مقومات فعلهم، ونزع قرارهم السياسي وإخضاعهم لهيمنة غربية تحدد سياسات قادتهم ومؤسساتهم من خلال التمويل الدولي في جانب والتهديد والحصار في جانب آخر.

رسمياً اختارت المؤسسات الرسمية الفلسطينية- منذ توقيع اتفاقية أوسلو خصوصاً- الاستسلام لوصفة التضامن الغربي مع فلسطين، ففي علاقة هذه المؤسسات مع يوم التضامن، أو المجتمع الدولي أو أي حدث يخص فلسطين في الحيز العالمي، يخضع كل شيء حتى أدق التفاصيل وأبسطها لشروط الفصل العنصري، فالفلسطيني المقتول في النقب على يد الغزاة الصهاينة لا يشمله هذا التضامن، ويضيق بأخيه في نابلس أو غزة إذا حمل الأخير السلاح دفاعاً عن روحه، ولا يحتمل الإشارة إلى واجب الأمم المتحدة في كسر الحصار عن 2 مليون لاجئ في غزة، أو عن ظروف التجويع والتشريد المفروضة على المخيمات في دول الطوق، أو حتى حرمان الفلسطينيين من حقهم في السفر.

لم تكتف الأطراف الدولية المهيمنة بنزع أرض الفلسطينيين وتشريدهم، ولكنها أيضا هيمنت على قرارهم السياسي، وعلى طرق تعبيرهم عن مأساتهم، ومطالبهم، واختيارهم لقياداتهم، أو حديثهم عمن يقتلهم وعن حقهم في الحياة، بل حددت من يقاتلون دفاعاً عن أنفسهم في وجه أعمال وصنوف الإبادة في موضع الملاحقة والوصم بالإرهاب، واعتبرت اختيارهم لمواقفهم أو لتحديد مصيرهم أمراً معطلاً بل خاضع لسياسات هذه الدول والأطراف المهيمنة.

ألف برنامج سياسي فلسطيني رسمي وغير رسمي، جميعها حتى أكثرها راديكالية خُطَّ كإجابة على سؤال فرضته القوى المهيمنة حول مصير الغزاة الصهاينة، سؤال وضعته هذه القوى الغربية للضحية حول الحل الملائم لمن يمسك السكين ويجز أعناق الفلسطينيين ليلاً نهاراً، هذه البرامج لن تجلب "تضامناً" مع الفلسطينيين في حقيقتهم ولكنه تضامن يدور حول موضوعهم، أو بالأصح موضوع الغزاة الذي يمثل الفلسطينيون "هامشاً مزعجاً فيه".

يحتاج الفلسطينيون موقفاً موحداً لحشد التضامن والمواقف والتحالفات الداعمة له، ولكن هذا الموقف أبداً لا يجب أن يتصل بإجابات عن أسئلة المستعمِرين عما هو ملائم للغزاة في المستقبل، بل عن العدالة، وعن تقرير المصير، وعن الحقوق ،كل الحقوق المسلوبة، وربما يبدأ ذلك بكف هؤلاء -المتضامنين المهيمنين- عن فرض رؤيتهم على الفلسطينيين ونزع وصايتهم على بنيتهم السياسية وقرارهم ومصيرهم، بترك مساحة للضحيةِ لتختارَ طريقةً لرفض الموت ووقف المجزرة، هذه المجزرة التي صنعها "سادةُ العالم"، ومولوا استمرارها وسلحوا القاتلَ فيها وحاصروا الضحيةَ وجلدوا ظهرها في كل يوم منذ قرار التقسيم وما قبله، وصولاً لدعمهم للعدوان المستمر اليوم، والأسوء أن يتم هذا الدعم تحت يافطة التضامن!

بوابة اللاجئين الفلسطينيين

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد