واجه الفلسطينيون في الضفة الغربية المحتلة الموجة الحالية من هجوم المستوطنين عليهم كأفراد عزل دون حول أو قوة أو تنظيم، وكأن هذا المجتمع ليس ذاته الذي خاض أكثر من نصف قرن من الصراع والمجابهة اليومية لهجمات الاحتلال ومستوطنيه، وليس ذاته الذي نظم انتفاضات عدة في وجه الاحتلال وخلالها شكل لجاناً شعبية سرية وعلنية تكفلت بعشرات المهام متعددة الأنواع شملت معظم قطاعات الحياة، لدرجة يمكن القول: إن النسبة العظمى من الفلسطينيين قد ارتبطت بنوع من العمل المنظم ضمن البنى الوطنية والاجتماعية التي خاضت انتفاضة الحجارة الأولى.
هذا الانكشاف المستمر أمام هجمات المستوطنين، وأمام مجازر الاحتلال اليومية بالضفة الغربية وآخرها مجزرة مخيم جنين، وأمام سياسة احتلالية معلنة تهدف إلى الاستيلاء على معظم أراضي الضفة ونقلها للمستوطنين، هناك ما يتكفل بستره، وهو تلك التضحيات البطولية الفردية التي تتمثل في قيام بضعة قليلة من الأفراد بتنفيذ عمليات متفرقة رداً على إجرام قوات الاحتلال وعصابات المستوطنين.
وهنا موضع السؤال، ليس هذه العمليات، بل الخطاب حولها الذي تمارسه بعض منظومات الإعلام، القوى السياسية، الفصائل، وحتى قطاع واسع من المجتمع، إذ تحاول الاختباء من التوصيف الحقيقي للواقع، بأننا مازلنا بعد عقد كامل هيمنت فيه العمليات الفردية كنمط شبه وحيد من رد الفعل الفلسطيني، نذكر انهيار البنى التنظيمية الوطنية في مقدمة أو تذييل كل خبر وتقرير سياسي وكأنه قدر محتوم باق للأبد.
أو أن استعادة تنظيمنا الذاتي وشبكات فعلنا لا طريقة له إلا تلك الوصفة المدونة في كتيبات الهيكليات التنظيمية الفصائلية، دون استحضار لخلفيتها السياسية التي ربطتها بجموع شعبها، وجعلتها جواباً لسؤال النكبة، ومشروع للعودة، ومنحت هذه الوصفات التنظيمية روحاً سياسيةً حقيقية يجد فيها اللاجئ والمناضل الفلسطيني ما يتصل بمصيره.
حالة اللافعل والانفصال عن الواقع وتغطيته بالخطابة، ينتج مشهد عجزنا كفلسطينيين عن حماية طفل عمره 13 عاماً، يستفز شجاعته ووعيه لمحاولة حمايتنا جميعاً، ذويه، اصدقائه، أهل بلدته، مجتمع، وفصائل وطنية، وكأن الطبيعي أن يغطي هذا الطفل عجز وفشل بنى سياسية وتنظيمية بأكملها، ليس عن حمايته فحسب، ولكن عن أبسط أدوارها في تنظيم شعب يذبحه المستوطنون وغارات جيش العدوان على مدننا و بلداتنا وقرانا و مخيماتنا التي استحالت لساحة عمليات يومية لوحدات جيش العدو.
لا معنى للتغني بالمجزرة باعتبارها دلالة مقاومة إلا العجز السياسي عن صياغة برنامج حقيقي للمقاومة في الضفة، أو مقولات سياسية محددة تعكس رؤية كل هذا النظام السياسي (سلطة وفصائل) ببناه المكدسة حول مواجهة الاحتلال، في حين ما يحتاجه الفلسطينيون لمقاومة المجزرة والردع عن ارتكابها هو مقولات جادة تحمل أملاً حقيقياً بإمكانية هزيمة الاحتلال يستطيع الناس تصديقها والانتظام للعمل من أجل تحقيقها، لا مزيداً من بيانات تشجيع الأفراد للقيام بالمهمة المستحيلة، مهمة سد عجز القوى المنظمة عن التنظيم وعن السياسة، وإجابة جموع اللاجئين المذبوحين في المخيمات عن سؤال عودتهم، والأسرى عن سؤال حريتهم، والمهجرين يومياً عن إمكانيات دعم صمودهم، والمحاصرين عن آمالهم في كسر الحصار.
تنظيم المجموع الشعبي الفلسطيني في مواجهة الاحتلال يعني أكثر بكثير من مواكبة وتشجيع تشكل مجموعات نضال مسلحة في ازقة بعض المخيمات والأحياء الفلسطينية، وبالتأكيد تأييد فعل هؤلاء ضروري أياً كانت محدوديته في مواجهة الاحتلال والعدوان، ولكن هذا الفعل يحتاج لظهير سياسي يسنده، لوقف استنزاف الاحتلال اليومي لحواضنه بمجازر مستمرة.
الحقيقة المؤلمة، رغم تواصل الهجمة الصهيونية واستمرارها، أن السياسة الفلسطينية تدور أجنداتها ونقاشها وجدول أعمالها، في مواضع أخرى منفصلة تماماً عن وقائع الأرض، فعلى طاولة السياسة تجاذبات وسيناريوهات وخلافات حول خلافة رئيس السلطة، وشلال من مصطلحات ومبادرات إنهاء الانقسام وترتيب وضع النظام السياسي الفلسطيني المنفصل عن الفلسطينيين وواقعهم، وتحليلات لا معنى لها جمدت الفعل والموقف والتفكير بانتظار تطورات إقليمية أو دولية، تارة تنتظر انتخابات الرئاسة الأمريكية، ثم انتخابات برلمان وحكومة العدو، ثم مرة أخرى وأخرى انتخابات حكومة العدو، أو مصالحات ومشاحنات دول المنطقة، وهذا موت للسياسة و لعلاقتها بمجتمعها، وتجريد لهذا الشعب من إمكانيات الفعل والتحرك لأجل وجوده وحريته.
الشعب الذي أشعل شوارع البلاد وأزقتها لسنوات طويلة يوماً بعد يوم، لا يُعقل أن علاقته بمن يضحي بدمه دفاعاً عن وجوده وهويته هو عبارات التشجيع على الحوائط الافتراضية، فالمؤكد أن ما يجري في بلادنا ليس مباراة كرة قدم، وليست هذه الجماهير روابط مشجعين، وتجربتنا الوطنية بإرثها الطويل أكبر وأهم وأعمق من أن تقف عاجزة عند حاجز التنسيق الأمني وسياسات ما بعد "أوسلو".
شعب نهض بانتفاضتين تحت الحكم العسكري، لا يمكن أن يكون غير قادر على تنظيم لجنة شعبية لحراسة مدخل قرية من هجمات المستوطنين على بيوت أهلها، ولا يعقل أنه عاجز عن التظاهر والاحتجاج والتضامن وإسناد من يتعرض للهجوم.
لسنا أفراداً معزولين، بل مجتمع حيٌّ يحمل إرثاً هائلاً ووعياً عميقاً بأدوات الاشتباك والفعل.