ليست حقوقهم السياسية والإنسانية فقط، بل يخوض اللاجئون الفلسطينيون من أصحاب الأمراض المستعصية في لبنان اليوم معارك جبارة فقط من أجل الحصول على الطبابة والدواء الذي يغيب لسببين أساسيين هما عدم توفر المال أو فقدان الدواء، وهذه المعركة لا تعبر عن مساحة احتلها المرض فقط، إنما أيضا عن محاولة لتحدي الواقع اقتصادياً واجتماعياً.
هذا الواقع الطبي المرير دفع إحدى أكثر الفئات المهمشة اجتماعياً، أصحاب الأمراض المستعصية، إلى دائرة من الفراغ المطلق، للبحث عن الدواء وتأمين تكلفته، وسط غياب البدائل والجهات التي يجب أن توفر تلك البدائل.
سياسة قاصرة لـ"أونروا" في التعامل مع المصابين بالأمراض المستعصية
تغيب وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا" عن توفير الحلول لأصحاب الأمراض المزمنة و المستعصية مثل السرطان والتصلب اللويحي . تغطي الأونروا نصف فاتورة الأدوية لأصحاب الأمراض المزمنة على ألا يتعدى سقف التغطية ٨آلاف دولار أميركي سنوياً، وتغطي 50بالمئة لأصحاب الأمراض المستعصية الذين يدفعون مبالغ عالية للعلاج، على ألا يتعدى سقف التغطية 12 ألف دولار أميركي سنوياً.
أما فيما يتعلق بالتحاليل والصور المخبرية فإنها تقدم مبالغ منخفضة جداً مقارنة بالتكلفة الحقيقية التي يضطر المرضى لدفعها مقابل هذه الصور والتحاليل.
تملك "أونروا" تعاقدات مع صيدليات عدة في مختلف أنحاء لبنان، لتأمين أدوية الأمراض المستعصية، وتعتمد الصيدليات تسعيرة وزارة الصحة اللبنانية، وبالتالي فإن وكالة "أونروا" تشتري الدواء أو تسهم بتكلفته وفق سعره في السوق اللبناني، وهو مفقود في أغلب الحالات، وبالتالي فإن الوكالة تعجز عن تأمينه في الوقت المحدد. كما تغطي الوكالة 50 بالمئة فقط من ثمن الأدوية لمرضى السرطان ومرضى التصلب اللويحي في حال توفر العلاج في الصيدليات، ما يدفع المرضى لدفع مبالغ إضافية عالية التكلفة، بسبب استخدامهم أدوية غير معتمدة أو مدرجة على لوائح وزارة الصحة اللبنانية ومنظمة الصحة العالمية، وهذه الأنواع من الأدوية لا تسدد الأونروا من تكاليفها سوى 30 بالمئة، فضلاً عن إسهاماتها فقط بما نسبته 30 بالمئة وبما لا يتجاوز 500$ فقط من تكلفة المستلزمات الطبية.
هذه السياسة دفعت باللاجئين الفلسطينيين لتنفيذ اعتصام في مخيم عين الحلوة جنوبي لبنان للمطالبة برفع التغطية الصحية لمرضى السرطان، وعلى إثر هذا الحراك أعلنت وكالة "أونروا" في إجراء استثنائي ومؤقت عن زيادة تغطيتها تكاليف أدوية مرضى السرطان في لبنان من نسبة ٥٠٪ إلى ٧٥٪، لكن هذا الإجراء سوف يستمر حتى نهاية العام 2023 الجاري فقط، كما أشارت الوكالة إلى أنها تتطلع إلى الاستمرار في هذا الدعم في العام القادم طالما كان التمويل متاحاً.
اقرأ/ي أيضاً: "أونروا" ترفع قيمة استشفاء مرضى السرطان في لبنان
العديد من مرضى الأمراض المستعصية يضطرون إلى تأخير العلاج، بسبب فقدان الأدوية في الصيدليات أو بسبب عدم توفر المبلغ المتبقي المطلوب من المريض دفعه، ما يؤدي إلى تدهور الوضع الصحي لهؤلاء لمرضى، أو يدفعهم إلى تحمل الآلام والأوجاع دون العثور على أي بديل للدواء، وتبقى هذه الاحتمالات على الرغم من قساوتها أخف بكثير من احتمال فقدانهم للحياة.
إن الواقع الاستشفائي المرير الذي يحيط باللاجئين الفلسطينيين في لبنان اليوم، يجب أن يكون بمثابة إشارة واضحة حول المصير الذي ينتظر هؤلاء المرضى الذين يعانون من الظروف الاقتصادية الصعبة التي تنال من مخيماتهم، كما تنال من أجسادهم.
أزمة الدواء تترك المرضى الفلسطينيين دون حلول
مشكلة الأدوية الحقيقية، هي أن أغلب الأصناف التي يحتاجها المرضى وخاصة أصحاب الأمراض المستعصية صارت مفقودة اليوم بالرغم من الحلول أو "بدائل الحلول" التي تحاول وزارة الصحة اللبنانية و "أونروا" القيام بها.
وتقوم الدولة اللبنانية بدعم أدوية الأمراض المستعصية، وتغطي الفرق بين سعر الصرف الرسمي للدولار وسعر صرف السوق السوداء، لكن بسبب الأزمة الاقتصادية التي تتفاقم أكثر بمرور الوقت، بدأت وزارة الصحة تعجز عن تغطية هذا الفرق، ما تسبب بعدم تسديد مستحقات الشركات المستوردة للأدوية، وبالتالي بنقص شديد وفقدان لمعظم أنواع الأدوية.
الجدير بالذكر أيضاً، أن الشركات والمستودعات أصبحت تتمنع عن بيع الأدوية بذريعة الارتفاع المتكرر للدولار، و هي تنتظر في كل مرة التسعيرة الجديدة من الوزارة، لرفع السعر وبالتالي زيادة الربح، والخاسر الأول في هذا السيناريو الذي يتكرر منذ حوالي ثلاثة سنوات في لبنان، هو المريض الذي تتدهور حالته الصحية، و تتعرض حياته للخطر بسبب عدم إكمال العلاج أو البدء فيه، حتى في حال الحصول على الدواء فإنه غالباً ما يمكن الحصول عليه بعد أن يكون قد تأخر المريض عن الموعد المحدد لتلقي العلاج، و التأخير في العلاج يعني أن الدواء لن يعطي النتيجة الفعالة التي كانت متوقعة عند بداية رحلة الاستشفاء.
لا يعرف الألم من هي الأجساد التي يدخلها، فنسبة الفقر بلغت في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان 93%، والانهيار الاقتصادي تسبب بفقد العملة المحلية 98 بالمائة من قيمتها، بينما بلغت نسبة التضخم267 %، بالرغم من هذه الإحصائيات فإن اليوم وزارة الصحة اللبنانية تؤمن الدعم على أدوية الأمراض المستعصية للبنانيين فقط على اعتبار أن وكالة "أونروا" هي المسؤولة عن تقديم الاستشفاء للفلسطينيين، ولكن تظل ما تقدمه قاصراً عن المرجو.
مثلاً، يضطر مرضى التصلب اللويحي إلى دفع مبلغ 500 لار أميركي لتأمين دواء(Rixathon) بينما يبلغ سعره مدعوماً للبنانيين فقط بحوالي 100 دولار أميركي، في المقابل تغطي "أونروا" نصف فاتورته فقط، ليتعين على المرضى وذويهم مهمة إيجاد مائتان وخمسون دولاراً في كل مرة يحتاجون فيها للدواء.
هذه الرحلة التي تتلخص بين البحث عن الدواء أو تأمين كلفته، غالباً ما تنتهي بمئات المرضى بالاستسلام لمصائرهم بعجز ويأس.
أصحاب الأمراض المزمنة يلجؤون إلى المسكنات كبديل لا توفره "أونروا"
تحكي سيدة من مخيم البداوي لبوابة اللاجئين الفلسطينيين، عن رحلتها في البحث عن الدواء الذي لن تكون قادرة على الوقوف وإكمال حياتها من دونه، بأنها تضطر إلى شراء الدواء من مصر أو تركيا وبالدولار، فيما الدواء غالباً ما يكون موجوداً على تطبيق وزارة الصحة (MOPH) إلا أنّ الدواء فعلياً على أرض الواقع غير موجود.
تضيف السيدة: أحياناً لا أجده في سوق السوداء رغم أنّي ابحث عنه وأعرف أنّه يباع بضعف ثمنه إن وجد، فأضطر إلى شرائه من الخارج، وإن وُجد الدواء فإن تسعيرة الدواء المعروضة على تطبيق وزارة الصحة تكون أقل بكثير من السعر الذي يطلبونه في الصيدليات وتضيف: لا أشتري الدواء من الخارج لولا حاجتي الاضطرارية له، ولأنني عاجزة تماماً عن إيجاد أي حل آخر.
العديد من الأدوية أصبحت مفقودة اليوم، بالرغم من الحالات الاضطرارية التي تحتاجها، والتي غالباً لا تحتمل التأخير في العلاج (بعض الحالات قد تتعرض للشلل أو نوبات مرضية في حال تأخير العلاج)، لهذا يلجأ من يستطيع من المرضى إلى شراء الدواء من الخارج وبالعملات الأجنبية.
وكالة "أونروا" بدورها لا تغطي 50% من فواتير هذه الأدوية كما هو الحال مع باقي أنواع الأدوية الموجودة في الصيدليات اللبنانية، لأنها لا تساهم في تكاليف العلاج من الخارج، بحجة عدم الشفافية، أو الشك بالفواتير، أو ارتفاع قيمة فواتير أسعار الدواء من الخارج.
السؤال الذي يجب طرحه، هو لماذا لا تؤمن "أونروا" كمؤسسة دولية الأدوية المفقودة في الصيدليات اللبنانية والتي يضطر أصحابها إلى دفع مبالغ ضخمة من أجل الحصول عليها؟
وتظل حيوات آلاف اللاجئين الفلسطينيين في المخيمات مرهونة بتوفر بدائل العلاج باستمرار، لذلك عند طرحنا السؤال حول البدائل التي يستعملها الناس، كانت تقابلنا ابتسامة ممزوجة بالسخرية والألم معاً، لأن المخيم في صورته الأولى هو بديل مؤقت عن الوطن، واليوم تحول كل من فيه إلى حلول مؤقتة وبديلة عن العيش الكريم.
وفي حديث مع سيدة فلسطينية مصابة بالسرطان حول مدى المساعدات التي تقدمها "أونروا" وأزمة فقدان الأدوية قالت: إن "المسكنات التي أستعملها هي بدائل عن الأدوية، والتي لا توفر نفس قدرة الدواء على تخفيف الألم، والوكالة لا تساعدني بكلفة هذه المسكنات، ولا بالصور المقطعية التي أجريتها وكذلك بالنسبة للمواصلات، بعض الأدوية تحتاج لمستشفيات خاصة لكي يطبقوا العلاج فيها وهذا ما يزيد من التعب، لأنه لا يوجد في المخيم مستشفيات تعنى بالأمراض المستعصية".
هذه التجارب تقود إلى طرح العديد من الأسئلة حول مدى قدرة مرضى الأمراض المستعصية على التحمل؟ وهل تبحث "أونروا" عن حلول أسوة بوزارة الصحة اللبنانية؟ والأهم ما هو مصير اللاجئ الفلسطيني في المخيمات الذي يدفعه كل ما حوله للعيش على هامش البدائل المؤقتة وغير المتاحة في أحيانٍ كثيرة؟