منذ اليوم الأول لبدء حرب الإبادة "الإسرائيلية" على قطاع غزة، لجأ الفلسطينيون في القطاع وهم تحت القصف إلى توثيق يومياتهم التي وصلت إلى الملايين حول العالم، ولاقت تعليقات تضامن، ووصفت بأنها تدمي القلب، وتبكي الحجر.

وبعيداً عما يوثقه ناشطون نشيطون لم ترهبهم كثافة الغارات "الإسرائيلية" والموت الذي يتهددهم في كل لحظة، يوثق آلاف الغزييين ما يحدث معهم ويكتبون عما يشهدونه ويكابدونه من آلام الفقد والنزوح والحرمان وتدمير حيواتهم.

ولا يخفى على أحد كم كانت وسائل التواصل الاجتماعي -رغم انتهاج إدارات بعضها كتلك التابعة إلى شركة "ميتا" لسياسة كتم صوت الفلسطينيين- مهمة في إيصال الصورة واضحة إلى العالم عما يحدث في غزة على لسان أصحاب المأساة الذين ما إن يتمكنوا من التقاط شبكة للانترنت حتى يسجلوا ما يخبرونه ويصفون دقائق رعبهم وخوفهم وألمهم ومعاناتهم، ومع حرمان الاحتلال "الإسرائيلي" أهالي غزة من الكهرباء وشبكات الاتصال يحاول الغزيون قدر الإمكان التواصل مع الخارج لإخبارهم بما يجري معهم والتواصل ولو عبر بوست او منشور، فقط كي لا تضيع الرواية وكي تُوثق الجرائم وتُسجل كل لحظة ألم تمر على أكثر من مليوني فلسطيني محاصرين تحت وابل القذائف والصواريخ التي قتلت منهم أكثر من 20 ألفاً ودمرت بيوت أكثر من 300 ألف أسرة وقضت على قصص حياة كانت موجودة في هذه البقعة المكلومة من الأرض.

بناتي قررن قص شعرهن لعدم وجود الماء الكافي للاستحمام

عاشت حنين رزق السماك، التي تقطن في تل الهوا، جنوب غرب قطاع غزة، حياة النزوح، بعد أن تم قصف منزلها وتدمر بشكل كامل، وأصبح صوت الصراخ بعد كل غارة "إسرائيلية"يصيبها بالصمم، هي وثقت ما تشعر به وكتبت للعالم: "العقل لم يعد يستوعب ما يحصل، والوضع يرثى له، والوصف يفوق الخيال".

Screenshot 2023-12-24 041257.png

وكلما لقطت حنين شبكة للانترنت وثقت في منشور ما تشهده في مركز النزوح التي لجأت إليه، تخبر العالم كيف أصبحت الأغطية والمواد الأساسية رفاهية بالنسبة للنازحين ولا يستطيعون الحصول عليها إلا بمشقة، واخبرت العالم كيف أن الاستحمام صار رفاهية لملايين النازحين في القطاع. وتنعي بشكل دائم معارف واقارب لها يرتقون جراء القصف "الإسرائيلي" المتواصل.

تقول: إنه لم يعد بمقدورها رؤية المزيد من الأشلاء، ورحيل المزيد من الأشخاص، وتحدثت حنين عن معاناتهم مع انقطاع المياه، حيث أجبروا على إيجاد وسائل للتخفيف من استعمال المياه، فقررت بناتها قص شعرهن توفيراً للمياه وللنظافة.

Screenshot 2023-12-24 041145.png


أتمنى أن أغمض عيني وأجد نفسي في الجنة وقد ارتحت من كل هذا العناء

ولا يبدو الوضع مختلفاً كثيراً عند دينا الغزالي، الصيدلانية التي عاشت آلام الفقد، عندما استشهد والدها في حرب غزة بتاريخ ٢٠٢١/٥/١١، والآن تعيش أسوأ أيام حياتها، بعدما تم قصف منزلها، حيث ذكرياتها التي تجمعها بوالدها، فقالت: "بيت العمر بعد ٢٠ عاماً أصبح رماداً في الأرض... كان يسمى برج السعادة"، أصيبت دينا بالإحباط والإرهاق، بعدما نزحت إلى ثمانية بيوت مرة تلو الأخرى، هرباً من القصف "الإسرائيلي"، وتتسائل دائماً عن مصيرها، بعدما أصبحت غير قادرة على التحمل، وباتت أمنيتها أن تغمض عيناها فتجد نفسها في الجنة سالمة، وقد انتهى كل هذا العناء".

Screenshot 2023-12-24 044720.png


إسرائيل ستقتلنا سواء قاتلناها ام لم نفعل

ياسر، هكذا يسمى نفسه هذا الشاب الفلسطيني على صفحته في فيسبوك، يقول: إنه عاش أكثر من نصف عمره في غزة، حيث شهد فيها أكثر من حرب، كما عاش حروباً أخرى خارجها، وفقد الكثير من الأقارب والأصدقاء، كما دمر جيش الاحتلال "الإسرائيلي" منزله مرتين، وتجول في مدن كثيرة حول العالم، لكنه اعتبر أنه رغم كل ما عاشه، لم يكن على دراية بالحقيقة، ولم تكن واضحة أمامه كما هي اليوم، الحقيقة التي تقول إن "إسرائيل"، ستقتلنا سواء قاتلناها أم لم نفعل، لذلك من المشرف لنا أن نقاتلها بكل الطرق الممكنة، ونفضح هذه الحقيقة بكل الأساليب والمناسبات واللحظات المتاحة، "هذا عهدنا، وهذه خارطة طريقنا الجديدة التي لا لبس فيها".

Screenshot 2023-12-24 044009.png

 


هذه المفردات التي يتداولها أهالي قطاع غزة

أما نور عاشور، وهي طالبة في كلية الحقوق، توقفت عن الدراسة مع توقف كل شيء في قطاع غزة سوى الموت والقصف، اختارت أن تعبر عن معاناتها بطريقة مختلفة، فاختصرت كل التعابير التي تسمعها يومياً في أماكن الإيواء، وتحدثت عن المواضيع المتداولة منذ اليوم الأول للحرب وحتى اللحظة، وهي معاناتهم في توفير الخبز، وشحن البطارية، وتأمين الملح والخميرة، وكيفية الوصول إلى منطقة الجنوب (التي كان يدعي الاحتلال أنها آمنة) ، وعبور الحاجز، الحزام الناري، وهي المفردات التي تتردد فقط في قطاع غزة وضعتها كلها في منشور في محاولة منها لإفهام العالم كييف يعيش أهالي القطاع، :"قطع الإرسال، رجع الإرسال، فصل الإنترنت، الناس نايمين في الخيم وفي الشارع، لا يمكن الوصول" بالإضافة إلى أكثر الكلمات التي أصبحت حديث أهالي غزة، وهي: "الشريحة الالكترونية، تهجير، هدنة، في إشي حلو ممكن ناكله؟ ، طيب في أكل؟، في لحمة بالسوق، في طحين بالمحلات؟، ممكن شقة او حاصل برفح؟، أجت المي، كيف نرفع المي على الخزانات، النزوح، في دوا بالصيدليات، كيف ندفي صغارنا، تحت الأنقاض، الناجي الوحيد من العائلة، احزر مين مات ! ‏في مفاوضات ؟، البنزين، الملابس الشتوية، إخلوا، جمعوا حطب عشان تطبخوا على النار، اليهود محاصرة منطقة فيها أهلنا .. معقول ضالين عايشين..؟؟".

Screenshot 2023-12-24 043938.png


وكانت نور قد عرضت في وقت سابق صورة لعائلتها وكتبت: "في هاي الصورة صورتها لعيلتي في أول أسبوع بالحرب، واحنا طالعين من الحارة، لابسين ملابس صيفية، وبنعتقد انه رح نرجع بعد يومين! ‏لا إحنا رجعنا، ولا الحارة ضلت، ولا بيتنا ظل .. ‏وكل البيوت صارت ردم! ‏وتغيرت المواسم علينا، واحنا بنستنى بيوم نرجع، ‏لهذه المنطقة اللي كل حياتنا فيها كانت حلوة ..".

عملنا في مستشفى الشفاء كأطباء وممرضين وعمال نظافة وأجبرنا في النهاية على النزوح

الطبيب خالد أبو سمرا، يصف السبعة وأربعين يوماً التي عمل فيها داخل مستشفى الشفاءخلال الحرب بأنها من أصعب أيام حياته يقول: إنه ذاق فيها مرارة القهر والألم، و"كانت هذه الأيام من أقسى اللحظات على مدار هذه الهمجية الصهيونية داخل مجمع الشفاء الطبي، فاستهدف العدو الصهيوني داخل المجمع، مستشفى الولادة، والعيادات الخارجية، وأطلق النيران على الأبنية، وبدأت الشظايا تتساقط داخل المجمع"

Screenshot 2023-12-24 045348.png


يضيف: إنه ما كان عليه سوى لملمة جراحه بشتى الطرق، ومحاولة ترتيب الأوراق بالأطباء الذين بقوا داخل المجمع، حيث عمل هو والموجودون كأطباء وممرضين وعمال نظافة، وصمد حتى آخر نفس، حيث أجبر على الخروج من المستشفى، وبدأ شعور الغربة يراوده منذ ذلك الوقت، ولم يكن فراق المجمع عليه هيناً، مشيراً إلى أنه "عمل مع خير الناس، وتنفس هواء المشفى، ومشي في أزقته، وحفظ كل شبر داخله"

ووجه أبو سمرا رسالة إلى زملائه عبر موقع "فيسبوك"، قائلاً: "زملائي الأبطال في مجمع الشفاء، طبتم أينما كنتم في قطاع غزة حالياً".

Screenshot 2023-12-24 045410.png


توقعت أن نبحث كثيراً عن وحدة دم وخلال دقائق وجدنا 4 متبرعين من النازحين والمكلومين

أما يحيى الشولي، الذي عاش قصة إنسانية، عبرت عن تماسك أهل غزة رغم المحن، حيث كان يوجد في مستشفى شهداء الأقصى، وتبرع بالدم للمحتاجين، وجلس جانباً وهو يشعر بالدوار، بسبب المشاهد القاسية التي شاهدها في المستشفى، وبعد دقائق جاء صاحبه يبحث عن متبرع بوحدة دم لأخته، فشعر يحيي بالخجل والإحباط، لأنه لم يعد باستطاعته التبرع أكثر، في ظل النقص الحاد في وحدات الدم بالمستشفى، وهذا الشاب يعاني من ظروف صحية لا تسمح له بالتبرع، فلم يكن باستطاعة يحيى سوى البحث له عن متبرع بين النازحين، فدعاه للسير بين النازحين، وتوقع أنه سيبحث كثيراً، لكن ما حصل أنه خلال أقل من خمس دقائق استعد أربعة أشخاص للتبرع، بينهم شخص استشهد أولاده الثلاثة قبل يوم، وشخص آخر جريح، ممنوع من التبرع، بدأ بالحلفان على الطبيب أن يأخذ منه وحدة دم للمساعدة.

WhatsApp Image 2023-12-16 at 11.00.12 PM.jpeg


هي مشاهد يومية، يحدث مثلها الآلاف في قطاع غزة، إنما يساهم توثيقها في منشورات بسيطة من قبلهم في تركيب لوحة متكاملة لما يحدث هناك، لما يعيشه هؤلاء الفلسطينيون، للمحرقة التي تأخذ من أرواحهم وحيواتهم، لكابوسهم الذي يشهده العالم أجمع وشارك في صناعته مجتمع دولي برمته صامت ومتواطئ أمام قتلهم وعذاباتهم.

بوابة اللاجئين الفلسطينيين

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد