يتعرض الفلسطينيون يوميًا في قطاع غزة للنزوح أو التهجير القسري، وتجربة النزوح تلك لا تأتي وحيدة بذاتها، بل تأتي مغمسة بمأساة أبشع منها، فلكل فلسطيني في قطاع غزة مأساته الخاصة التي حدثت معه خلال نزوحه فمنهم من قصف بيته ومنهم من قتل أبناؤه كلهم، ومنهم من لا يجد رغيف الخبز، وعشرات المآسي الأخرى .
أم تامر بعلوشة عاشت مأساة فريدة خلال نزوحها ففي أحد الأيام وعندما اقترب الليل من الانتصاف، اشتد عليها الوجع ووجدت نفسها في حالة مخاض، ثم وبشكل متسارع بدأ ماء الجنين بالنزول منها .
تقول أم تامر لبوابة اللاجئين الفلسطينيين أن المنطقة التي نزحت إليها شمالي قطاع غزة كانت محاصرة بالكامل وكانت قناصة الاحتلال "الإسرائيلي" تعتلي الأماكن المحيطة، وجثامين الشهداء متناثرة في الشارع.
كان من المستحيل حرفياً أن تستطيع الخروج إلى المستشفى في تلك الليلة وكانت الأوجاع تزداد مع الوقت ، حاول من كانوا معها الاستنجاد بالإسعاف لكن دون فائدة، اقترح عليها الموجودون أن تلد في البيت، هذا هو الحل الوحيد المتوفر حالياً أمامها.
بالنسبة لها كان الاقتراح مخيفاً للغاية، لا يوجد طبيب هنا ولا حتى ممرضة، ماذا لو حدث معها نزيف ، ماذا لو كانت وضعية الجنين غير ملائمة وتتطلب تدخلاً طبياً، ماذا لو كانت بحاجة إلى عملية ولادة قيصرية لكن الوجع كان يزداد بشدة .
كنت بحاجة إلى رعاية طبية خاصة باقي فترة حملي ولكن ما حدث هو العكس تماماً
بصيص أمل ضئيل تسلسل إليها عندما علمت أن أم جميل وهي المرأة التي ستقوم بتوليدها لديها تجربة سابقة مشابهة وأنها أنجبت ثمانية من الأبناء.
تقول أم تامر: إن النساء من حولها قد اضطروا إلى إضاءة كشافات الجوالات، لمساعدة أم جميل على عملها، مشيرة إلى أن آخر مرة قامت فيها بالمراجعة الطبية لحملها كانت في الشهر السادس وأخبرها الطبيب أن لديها ضعفاً في الدم ومشاكل صحية، وأنها بحاجة إلى إجراء تصوير وتحاليل خاصة، ولكن العدوان "الإسرائيلي" على قطاع غزة حال دون ذلك .
تتابع: "كنت بحاجة إلى رعاية طبية خاصة باقي فترة حملي ولكن ما حدث هو العكس تماماً، في أحد المرات كنت نازحة في منطقة اليرموك بمدينة غزة عندما حدث قصف عنيف في بيت الجيران فاضطرت إلى الخروج للشارع والركض بسرعة والمشي فوق الركام والحجارة والزجاج المهشم، مع أني غير قادرة على المشي ناهيك عن صوت الطيران المرعب من حولي ورائحة الدم المخلوطة بالركام التي كانت تملأ المكان".
اضطرت حينها إلى العودة إلى منزلها في شارع النفق فهي تسكن في شقة في الطابق السادس وكلما ازداد الوضع سوءاً كانت تضطر للنزول إلى الطوابق السفلية للاحتماء من خطر القصف وكان النزول والصعود أمراً يرهقها للغاية .
لم يكن هناك لا انترنت ولا كهرباء ولا إسعاف ولا مستشفى، كان الوضع أسوأ من تخيلاتهم
تكمل مازحة: إنه في بداية الحرب كان النساء من حولها يقترحن عليها الاستعانة باليوتيوب لتوليدها إذا ازداد الوضع سوءاً، موضحة أنهم لم يكونوا يعلمون أن وقت ولادتها لم يكن هناك لا انترنت ولا كهرباء ولا إسعاف ولا مستشفى، كان الوضع أسوأ من تخيلاتهم.
وعندما سألنا أم جميل بعلوشة عن التجربة التي خاضتها وكيف أنها اضطرت إلى توليد أم تامر رغم افتقارها إلى أدنى مقومات ذلك العمل، قالت: إن تلك الخطوة كانت بحاجة إلى جرأة كبيرة لأن المخاطرة عالية "لكننا لم نكن نمتلك أي حل آخر، كنت خائفة أن تعلق المشيمة داخل رحمها أو أن يتمزق غشاء الرحم، كان من الضروري وجود طبيب لتقييم وضع الجنين، هل هو بحاجة إلى رعاية خاصة أم لا لكن في النهاية توكلنا على الله وخضنا التجربة" .
تذكر أم جميل أنها عاشت نفس التجربة في عام 2004، فقد كانت منطقتهم تتعرض لاجتياح عندما اضطروا إلى إحضار الطبيب إلى منزلهم من أجل توليد سلفتها (زوجة أخ زوجها) في ذلك الحين كان الطبيب بحاجة إلى ممرضة تساعده فاضطرت هي إلى مساعدته لعدم وجود ممرضات.
تتابع: "خلال تجربة توليد أم تامر أصبحت أتذكر الخطوات التي كان يقوم بها الطبيب، عندما قام بتوليد سلفتي آنذاك، وبفضل رعاية ربنا العملية تمت بنجاح، وخرج المولود سليماً وأمه بخير"، مضيفة: أنها واجهت مشكلة في الحبل السري لأنها تتذكر أن الطبيب أخبرها بأنه يجب أن تبقي الحبل طويلاً قبل ربطه ووضع الملقط ولكن اتضح لها أن ما قامت به كان خاطئاً فالحبل السري أصبح له رائحة كريهة جداً، إلا أنها قامت مرةً أخرى بتقصير الحبل السري ومع الغيار والكحول والملح والزيت نجح الأمر وحلت المشكلة، ونجّت العناية الإلهية الطفل والأم.
النساء الحوامل يضطرن إلى الولادة في أماكن نزوحهن
ومن جهته قال الدكتور صلاح الكحلوت وهو استشاري قسم النساء والولادة في مستشفى أصدقاء المريض بأن عشرات الحالات في قطاع غزة، قد اضطرت للولادة في أماكن الإيواء والنزوح بسبب الخوف الشديد من القصف.
يخبرنا الطبيب أنه في حالة مشابهة قبل عدة أيام، استهدف جيش الاحتلال سيدة وزوجها وحماها وحماتها، وقصفوا سيارتهم بقذيفة في منتصف الليل خلال توجههم للمستشفى لتوليد تلك السيدة وجميعهم قضوا في ذلك القصف.
يؤكد الكحلوت أن النساء الحوامل يضطرن إلى الولادة في أماكن نزوحهن، وبعد أيام يقمن بمراجعة المشفى عندما تكون هناك فرصة متاحة، ليقوم فحص الأم هل هي بحاجة لتغريز أو أي أمر آخر ويتم الاطمئنان على حالة الجنين واستقرار وضعه الصحي.
يشير الكحلوت إلى أن "خروج معظم المستشفيات عن الخدمة وتوقفها عن العمل في شمال غزة، يعرضنا لضغط شديد داخل مستشفى أصدقاء المريض ففي أحد الليالي قد أضطرت للقيام بأكثر من عشر عمليات ولادة بسبب عدم وجود من يسد مكاني أو ينوب عني، ناهيك عن النقص الشديد في الأدوية والبرد الشديد التي تتعرض له الأم والجنين خلال الولادة لعدم توفر أي من مصادر الطاقة".
ويوضح أنه في بعض الليالي قد يتعرض محيط المستشفى لقصف شديد ولكنهم لا يستطيعون ترك أي حالة ولادة بين أيديهم ومغادرة المكان، "بل نقوم بما يمليه علينا واجبنا وضميرنا".
وتقدر وزارة الصحة في غزة بأن هناك أكثر من 60 ألف سيدة حامل يعانين بشدة من سوء التغذية، والجفاف وغياب الحد الأدنى من الرعاية الصحية المناسبة.
وأكدت، في بيان لها الأسبوع الماضي، أن نحو خمسة آلاف سيدة حامل تضع مواليدها شهرياً، في ظروف شديدة الصعوبة وغير صحية، نتيجة القصف "الإسرائيلي" المستمر والنزوح المتواصل من مكان لآخر.