عشرات الآلاف من الشهداء ارتقوا خلال حرب الإبادة "الإسرائيلية" التي يواجهها قطاع غزة وحيداً.. جزء كبير من هؤلاء الشهداء تم دفنه في مقابر قديمة مكتظة، مُنع الدفن فيها منذ سنوات وكثيرون تم دفنهم إما في ساحات المستشفيات أو المدارس التي نزحوا فيها، أو أرض كبيرة يمتلكها أهالي قطاع غزة وتحولت إلى مقابر، وجزء ليس بالقليل ما يزالون تحت ركام منازلهم منذ أشهر لا يستطيع أحد انتشالهم، وجزء مفقود ذهب ولم يعد، لا يعرف ذوو هؤلاء المفقودين أي معلومة عنهم منذ شهور عدة، وجزء آخر تم دفنه في مقابر جماعية أو فردية بدون علم أو وجود ذويهم بسبب استحالة وصول ذويهم إلى مكان الدفن .

الشاب أحمد عجور عاش إحدى التجارب المريرة هذه التي عاشها عشرات الآلاف في القطاع المكلوم، يقول لبوابة اللاجئين الفلسطينيين :إنه في يوم الخامس من تشرين الثاني/ نوفمبر 2023 كان يركب سيارة الأجرة عائداً من زيارة لأحد أصدقائه، حين اتصل به خاله وأخبره بإصابة أخيه بشار بجراح بليغة، وأن هناك احتمال كبير، بأنه استشهد.

كان بشار أخو أحمد مع أصدقائه هناك للبحث عن أحد أقاربهم المفقودين، بعدما استهدفتهم طائرة استطلاع "إسرائيلية" في منطقة "كيرفور" الكائنة في حي تل الهوى جنوبي غربي مدينة غزة، وحينها لم يكن الأهالي يعلمون أن جيش الاحتلال قد صنف تلك المنطقة كـ "منطقة عسكرية حمراء".

الطيران الحربي الإسرائيلي استهدف سيارة الإسعاف التي توجهت إلى المكان وقتل مسعفاً

بعناية إلهية، نجا من القصف ثلاثة من رفاق بشار، بعد استهدافهم مرة أخرى، وأثناء هروبهم استطاع الإسعاف الوصول إليهم في منطقة أنصار، وكان أحدهم مصاباً بجراح خطيرة، والثاني متوسطة، والثالث لم يصب بأي أذى بينما بقي بشار في منطقة "كيرفور" وقد انقطعت أي معلومة حول مصيره .

أحد الشبان الناجين أخبر أحمد أخا بشار، بأن صاروخاً من طائرة الاستطلاع سقط أمام بشار، وكان بينه وبين الصاروخ عربة بائع متجول، وأنهم لا يعلمون مدى إصابته وهل هو حي أم استشهد، كما يقول أحمد.

يضيف أحمد: بأنه توجه فوراً برفقة أفراد عائلته إلى مستشفى الشفاء وحاولوا إرسال سيارة إسعاف إلى أخيه، ولكنهم في المستشفى رفضوا وأخبروهم أن إحدى سيارات الإسعاف قد توجهت فعلاً إلى تلك المنطقة قبل وقت قليل، وأن طيران الاحتلال الحربي استهدف السيارة ما أدى إلى استشهاد مسعف وإصابة آخرين.

وحين تواصلت عائلة بشار مع الصليب الأحمر من خلال جهات عديدة سواء في قطاع غزة أو الضفة الغربية، أخبرتهم المنظمة الدولي بأن تلك "المنطقة حمراء ولا يستطيعون التوجه إليها بتاتاً، علمًا أن هذا المصطلح لم يكن دارجًا لدى الناس" .

مرت الدقائق بطيئة للغاية وبالنسبة لأحمد وأقربائه، وهم يحاول معرفة مصير أخيه بشار، بعد أن فقدوا أي اتصال معه، وحالوا الاتصال على هاتفه، لكنّه لم يجب.

حتى سكان تلك المنطقة في حي تل الهوى، أخبروهم أن أقارب لهم أصيبوا ولا يستطيعون الوصول إليهم.

"مع كل لحظة كانت تمر، كان يجن جنوني وأنا لا أعرف هل أخي حي مصاب أم شهيد؟ كنت أسأل نفسي، ماذا لو كان ما يزال على قيد الحياة، هو الآن ينزف بشدة وأن كل لحظة تمر تساهم في قتله" يقول أحمد.

يتابع: "كان توقيت الاستهداف بين العصر والمغرب ومع كل المحاولات السابقة كان الليل قد حل وكانت كل الحلول قد أغلقت في وجهي"، موضحاً أن كل تفكيرة كان يتمحور في شيء واحد فقط وهو محاولة إنقاذ أخيه، "لو كلفنه ذلك روحه".

اتفق أحمد مع أحد أصدقائه، أن يخاطرا ويذهبا للمكان، وأن يأخذا معهما قداحة ( ولاعة ) لإضاءة الطريق، بدون إخبار أحد وبدون أن يكون معهما هواتف أو وسيلة اتصال.

يقول: "بهدوء توجهت إلى الصف الذي كنا ننزح إليه داخل مدرسة الكرمل وقمت بتعبئة زجاجة ماء للشرب ثم عدت إلى صديقي وتوجهنا من المدرسة الكرمل باتجاه المنطقة، وما إن تقدمنا فقط مائة متر حتى وجدت خالي أمامي يعترض طريقي، وأخبرني أن تعبئتي لزجاجة الماء قد جعلت الشكوك تساوره بأنه ذاهب إلى المكان الذي أصيب فيه أخي بشار" .

يتابع: "حاولت إقناع خالي بتركي كي أذهب إلى هناك، وأنه بمنعي يضيع فرصة إنقاذ أخي ولكنه رفض وأخبرني أن ذهابي في هذا السواد من الليل يعتبر عملية انتحارية، وأن السماء ملبدة بالطائرات الحربية، وأخبرني أنه سيمنعني ولو اضطر إلى ربطي بشجرة ، استسلمت للواقع وانتظرت حتى بزوع الصباح ".

ومع بزوع الفجر تحرك أحمد وصديقه جنوباً نحو منطقة "كيرفور"، يصف الأوضاع التي رآها بالكارثية، فطوال الطريق شاهد مئات البيوت والعمارات وقد تمت تسويتها بالأرض، مشيراً إلى المخاطرة الشديدة التي خاضوها في محاولة دخول تلك "المنطقة العسكرية الحمراء".

وجدت بصره شاخصاً لأعلى لمسته بيدي كان جسده بارداً للغاية وملامحه في غاية الروعة

تسللا عبر الشوارع الفرعية، وأسفل ما تبقى من الأشجار واضطرا إلى دخول بقايا منازل مهدمة والتسلق عبر الأسوار إلى أن وصلا إلى غرفة في أرض قريبة للغاية من المكان الذي تم وصفه لأحمد بأنه المكان الذي استهدف فيه أخوه بشار.

يقول أحمد: "تركت صديقي داخل تلك الغرفة حتى لا أخاطر به أكثر من ذلك، وتقدمت نحو المكان ببطء وحذر إلى أن رأيت أخي بشاراً من بعيد، ممدداً على الأرض وبالقرب منه رجل إسعاف ممدد على الأرض هو الآخر" .

بنبرة يملؤها الحزن يتذكر: "ركضت بسرعة نحو أخي صاحب الابتسامة الجميلة، لأطمئن عليه ولكن للأسف وجدت بصره شاخصاً لأعلى وقد فاضت روحه للسماء، لمسته بيدي كان جسده بارداً للغاية وملامحه في غاية الروعة فإصابته كانت في البطن" .

حاول أحمد حمل أخيه الشهيد للعودة به إلى أمه، من أجل توديعه، ولكن فجأة انفتحت رشاشات آليه وأخذ الرصاص ينهال على المكان بغزارة ثم سمع دوي انفجار عنيف، فالتفت إليه فإذا هو الغرفة التي يختبئ بها صديقه، وقد سقط عليها صاروخ من طائرة استطلاع "إسرائيلية" والدخان قد غمرها بأكملها .

يكمل أحمد: "خلعت الجاكيت الذي ألبسه وغطيت به جثمان أخي بشار لأحميه من أشعة الشمس، لم يكن هيناً علي أن أترك جسده هناك ولكني أسرعت نحو الغرفة لإنقاذ صديقي وما إن اقتربت من تلك الغرفة حتى وجدت صديقي يخرج من الغرفة وقد امتلأ جسده بالأتربة والرماد".

كان صديقه بخير، ولكن زادات حدة القصف والاستهداف وإطلاق النيران، فأسرعا لمغادرة المكان تاركين جثمان بشار خلفهما.

يقول أحمد: "عدت بسلام وكان الأمر مؤلماً حقاً وأنا أخبر أمي بما حدث وكانت كلماتها شديدة على قلبي وهي تقول : يعني مش حشوف بشار بعد هيك؟"

مرت الأيام والأسابيع وعائلة بشار لا يستطيعون الوصول إلى المكان الذي ارتقى فيه، إلى أن بدأت الهدنة في 24 تشرين الثاني / نوفمبر أي بعد مرور 19 يوماً على استشهاده، تحرك أحمد إلى هناك بسرعة مع والده، ولكن المكان الذي كان ينزحون كان بعيداً جداً عن مكان استهداف بشار، في الطريق علموا أن أحد أقربائهم الذي استشهد ابنه بالقرب من بشار قد وصل المكان قبلهم وانتشل جثمان ابنه وجثمان بشار ودفنهما في المقبرة الملاصقة للمستشفى العربي الأهلى (المعمداني).

يقول أحمد: "لم يتسن لي دفن أخي بيدي، ربما هي حكمة إلهية كي لا أرى ماذا فعلت الأسابيع بجسده وهو ملقى في الشارع وكي أحتفظ بالصورة الملائكية التي ودعته بها يوم وضعت جاكيتتي على جسده لتحميه من أشعة الشمس".

بوابة اللاجئين الفلسطينيين

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد