يقف الفنان التشكيلي رائد عيسى أمام بياض لوحته مقاوماً لشعور الإحباط، ويرسم من داخل خيمته التي حولها إلى مرسم، بقعة ضوء علها تجد طريقها في ظلام حرب الإبادة ومرارة النزوح، ويوثق من خلال ألوانه كل اللحظات التي يعيشها سواء كانت جميلة أو حزينة، معبراً بذلك، إلى جانب أطفاله عن معنى جديد للتجذر والبقاء.
يتحدث رائد عيسى، لبوابة اللاجئين الفلسطينيين عن حياته وقد صار لاجئاً مثله مثل كل أهالي قطاع غزة: "جاء عيد الأضحى ولم نشعر بمجيئه، مثله مثل عيد الفطر الماضي، وكباقي أيام الحرب التي شهدت القتل والدمار والنزوح، مر العيد ونحن نبحث عن الأمن والأمان، وكذلك المواد الأساسية للحياة ومياه الشرب، ليصبح العيد مجرد اسم ليس له معنى في ظروف التشرد والنزوح والتشتت".
كان الفنان الفلسطيني يسكن في مدينة غزة، بالقرب من مستشفى الشفاء، عندما بدأ جيش الاحتلال "الإسرائيلي" بالتوغل قرب المنطقة، ما أشعره بالخوف على أولاده الصغار، خاصة عندما بدأ جيش الاحتلال يطلق القذائف العشوائية على المنطقة بهدف القتل وإثارة الرعب وإجبار السكان على الرحيل.
يقول عيسى: "خرجنا تحت الضرب، ونزحنا إلى مدارس الأونروا الموجودة في ذات المنطقة حتى نحمي أنفسنا وأطفالنا، ولكن ظل القصف الإسرائيلي كثيفاً بالقرب منا، حتى اضطررنا إلى النزوح لجنوبي القطاع، بالتحديد إلى رفح.
أطفالاً وكباراً، أجبروا على المشي فوق جثامين الشهداء المنتشرة بالشوارع، وكان الخوف سيد الموقف، حتى وصلوا إلى مواصي رفح على اعتقاد أنها كانت مصنفة "منطقة آمنة".
من خيمة إلى أخرى ينتقل مرسمه معه
يضيف: "مكثنا عدة أشهر هناك، في خيمة بأحد مراكز النزوح، وحتى الحصول على خيمة لم يكن بالأمر الهين، فالظروف كانت صعبة على جميع الأصعدة، كنا ننتظر ساعات طويلة من أجل الحصول على المياه النظيفة والطعام، عشنا أياماً وليالي لا نحسد عليها إطلاقاً".
لاحقاً أنشأ في خيمه برفح مرسماً "عبارة عن أمل له، ومحاولة للعيش والحلم بالعودة إلى بيته"، ولكن سرعان ما انطفأ هذا الأمل، عندما اجتاح جيش الاحتلال "الإسرائيلي" مدينة رفح وبدأ يرتكب المجازر بحق النازحين إلى الخيام في أيار/ مايو، ما اضطره إلى النزوح مرة أخرى مع عائلته إلى دير البلح، يقول عيسى: "ما زلنا ننزح من مكان إلى آخر على أمل انتهاء هذا الكابوس وهذا الظلم الذي نتعرض له".
ورغم كل الظروف الصعبة ونقص أبسط متطلبات الحياة الكريمة، إلا أن عيسى ما يزال يصارع من أجل الصمود، خاصة أن منزله دمّر بالكامل جراء القصف "الإسرائيلي"ولم يعد له مكان سوى الخيمة، ومجدداً حول خيمته إلى مرسم لأطفاله، كي لا ينقطعوا عن الفن وتطوير مهاراتهم الإبداعية، و"كفرصة لخلق أجواء إبداعية مفيدة، وكذلك كنوع من الترفيه في ظل عدم وجود أماكن للترفيه والتسلية، بعد أن دمر الاحتلال كل مكونات الحياة"، هكذا يعبر عيسى عن هدفه من إنشاء المرسم داخل خيمة، مستدركاً، "قمنا برسم لوحات جدارية جماعية مع بعضنا البعض، تحاكي واقع الطفولة في ظل النزوح والتشتت والخوف".
الحرب دمرت كل شيء .. لكنهم لم يستسلموا
يؤكد عيسى أن هذه الحرب حولت حياة أهالي القطاع إلى جحيم، "خسرنا كل شيء، فقد دمر العدو بيتنا الجميل الذي كان يؤوينا، وكذلك مرسمنا الذي كان كل حياتنا، وتحول كل شيء إلى رماد".
كل ما رسمه عيسى سابقاً من لوحات، وجميع ما يملك من مقتنيات فنية خاصة، و إرث حضاري قد دمر كلياً، ولم يعد له وجود، ومرسمه الخاص بإطلالته البحرية الجميلة التي كانت الحياة والمتنفس الفني له ولأطفاله وعائلته وأصدقائه، أصبح ذكرى لمكان لم يعد موجوداً، وكل ما يعيشه الآن هو واقع مؤلم في خيمة هشة لا يمكن لها أن تحميهم حتى من هدير الطائرات أو غدرها، يقبعون فيها بانتظار المجهول، ولا شيء يخبرونه سوى ترقب موقت محتمل جراء القصف وسط تعب الحياة اليومية، والبحث عن مستلزمات الخيمة والأطفال غير المتوفرة أصلاً في القطاع المحاصر.
لذلك يضيف عيسى: "لا يمكن لنا أن نستسلم ونعيش بلا فن أو دون الممارسة الفنية، إلى جانب عملي مع الأطفال، قمت بتسجيل يومياتي كترجمة لهذه الحرب من خلال تلك الرسومات الذي أسميتها بأسماء تذكرني بتلك اللحظات التي عشتها وما زلت أعيشها من مآسي وخوف وفرح وتعب وانتظار، كان ذلك كله جزءاً من معاناتي الشخصية التي تتشابه مع معاناة الناس"
يعشق هذا الفنان الفلسطيني العمل مع الأطفال، خاصة في أيام الحرب القاسية التي يخبر فيها هؤلاء الصغار ما يفوق قدرتهم على التحمل، ويوضح: "إنهم يعلموننا معنى الحياة والبراءة".
شارك عيسى وأبناؤه الأطفال النازحين بالمخيم في دير البلح، وبعض الفنانين في رسم جدارية ، كان الهدف منها الترفيه وخلق أجواء المرح والسعادة على وجوه الأطفال من خلال الفن، وتفريغ مشاعر الأطفال الممتلئة بالقلق والخوف والحرمان، وما زال يعمل على تنفيذ بعض الرسومات التي تحاكي واقعه الجديد المتمثل من نزوح إلى آخر، و"معاناة الفنانين والعاملين في مجال الفنون البصرية".
ويقول: "يحتم علينا الرصد والتوثيق برسم معاناة النازحين والمعاناة الشخصية اليومية، التي نعيشها في ومخيمات النزوح".