على أعتاب مخيم اليرموك جنوب العاصمة السورية دمشق، كان عبد الرحيم أحمد سليمان يحدّق في الوجوه باحثًا عن ملامح أمه، وحين لمحها من بعيد، تردد للحظة قبل أن يسألها: "أنتِ أمي؟" فأجابت: "نعم"، لكنه لم يكن قادراً على التصديق، بأنه خرج من جحيم سجن صيدنايا، وهو أحد اللاجئين الفلسطينيين الذين نالوا حريتهم بعد سقوط النظام السوري يوم 8 كانون الأول/ ديسمبر 2024 الفائت.

عبد الرحيم، الشاب الفلسطيني الذي نجا من سجن صيدنايا العسكري سيئ الصيت، لم يكن يدرك أن محاولته الفرار من الخدمة العسكرية ستنتهي به في أقبية الموت ذاك الجحيم، الذي زهقت فيه مئات، وربما آلاف الأرواح على يد سجاني النظام السابق.

 كان عبد الرحيم يؤدي خدمته العسكرية في "أكاديمية الأسد العسكرية" بمدينة حلب عندما قرر الهروب، إذ لم يكن يرغب في المشاركة في الحرب الذي شنها النظام على شعبه، ولجأ إلى مهرب لمساعدته، لكن وشاية قلبت حياته رأساً على عقب، إذ جرى اعتقاله بتهمة سرقة سلاح من الجيش، ليجد نفسه أمام النيابة العسكرية التي أبلغته بصدور مذكرة توقيف بحقه إلى السجن الثالث العسكري، أو كما يُعرف باسمه الأكثر رعباً: سجن صيدنايا.

رحلة إلى الجحيم

بدأت رحلة العذاب من فرع القابون، حيث زُجَّ في زنزانة تُعرف بـ"الغواصة"، غرفة ضيقة تعج بالجرذان والمياه الآسنة، هناك سمع لأول مرة عن صيدنايا وما يجري داخله. "أصبحت أرى الكوابيس حتى قبل أن أصل إلى هناك"، يقول عبد الرحيم، مضيفاً أن ما كان يخفف عنه هو الصلاة والاستغفار، والإيمان بأن باب السجن سيفتح يوماً ما.

وحين سقط النظام، تحقق الحلم الذي لم يكن يجرؤ على تصديقه، خرج مع من تبقى من المعتقلين، وعندما وجد نفسه خارج الأسوار، بدأ بضرب وجهه ليتأكد أنه ليس في حلم.

في صيدنايا، لم يكن الموت سريعاً، بل كان يُجرَّع قطرةً قطرة. يروي عبد الرحيم تفاصيل من العذاب الذي رآه هناك: "يضعون المعتقل على ما يُسمى "البساط"، ويضربونه بهراوات حديدية، ثم يُحتجز في زنزانة انفرادية لشهر أو شهرين، يُقدم له رغيف خبز واحد يومياَ، ويُمنع من دخول دورة المياه". أما أكثر الأساليب وحشية، فكان إجبار المعتقل على الجلوس على كرسي مقلوب، بينما يشعلون النار تحته.

يحكي عبد الرحيم عن رجل مسن يدعى محمد، مريض بالقلب، كان يصرخ: "أنا عندي قلب!" لكن صراخه لم يلقَ إلا التجاهل حتى فاضت روحه. أما المعتقل المصاب بالإنفلونزا، فكان مصيره أشد قسوة، إذ حقنه أحد السجانين بإبرة مملوءة بالهواء، فمات فوراً.

"أوس"، مساعد في الجيش من مدينة حمص، كان اسمه كابوساً لكل معتقل، "حين يدخل علينا، نشعر أن عزرائيل قد دخل الزنزانة"، يقول عبد الرحيم، مضيفاً أن المعتقلين الموتى كانوا يُنقلون إلى مكان مجهول، وسط تهديدات لمن تبقى بعدم الحديث عما شاهدوه.

بعد أشهر من نيل عبد الرحيم حريته، لا يزال عبد الرحيم يعاني صدمة ما عاشه، "حتى الآن لا أستطيع النوم، أخاف أن أعود إلى ذلك المكان"، يقول بحزن.

شاب فلسطيني ناج من جحيم صيدنايا.jpg

هو واحد من بين 3200 فلسطيني اعتقلهم أمن النظام السوري خلال الحرب، لم يخرج منهم سوى 47 بعد سقوط النظام، فيما قضى الآلاف داخل المعتقلات، حيث كانت الأجساد تهترئ قبل في الزنازين الوحشية، وتقتل الأرواح على يد سجانين، أعدهم النظام السابق بعناية ليؤدوا مهاهم الإجرامية، مع آمال كبيرة بأن يلقى المجرمون عقابهم، وتحل العدالة على أرواح ونفوس الآلاف ممن قضوا ظلما في سجون بشار الأسد.
 

شاهد/ي: عبد الرحيم سليمان، ناجٍ من جحيم صيدنايا، يروي تجربته القاسية

 

بوابة اللاجئين الفلسطينيين

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد