في الخامس عشر من أيار/مايو من كل عام، يقف الفلسطينيون في الوطن والشتات على عتبات الذاكرة، يحيون ذكرى النكبة التي حلت بهم عام 1948، تلك اللحظة الفاصلة التي رسمت مسارات حيواتهم لعقود تلت، وحولتهم إلى لاجئين ومشاريع استهداف، وحرموا فيها من وطنهم، وتحولت فيها أرضهم إلى مسرح للدمار والتهجير، حين اقتُلعت جذور أكثر من 750 ألف فلسطيني من مدنهم وقراهم، بعد أن اجتاحت العصابات الصهيونية أرض فلسطين، مرتكبة مئات المجازر، ومحوِلة بلدات وقرى عامرة إلى أطلال صامتة.
لم تكن النكبة مجرد حادثة عابرة في دفتر التاريخ، بل كانت شرارة لمسار طويل من الألم، والشتات، والاقتلاع من الأرض والهوية، مسار ما زال مفتوحًا، يسير فيه الفلسطينيون بأقدامهم المثقلة بالحنين والكرامة، حاملين في قلوبهم مفاتيح البيوت المغلقة على الوجع والذاكرة.
اليوم، وبعد مرور 77 عامًا، لا تزال النكبة حية في وجدان الفلسطينيين، لا كحادثة تاريخية فقط، بل كواقع مستمر تتجرع تداعياته الأجيال.
وفي قلب هذا الواقع، تتقاطع معاناة النكبة لدى الفلسطينيين في الشتات، أولئك الذين وُلدوا بعيدًا عن أرضهم، لكنهم لم ينفصلوا عنها، وفي أوروبا تحديدًا مع تجارب الغربة، الاندماج، والصراع من أجل الحفاظ على الهوية في بيئات سياسية وثقافية مختلفة.
ذاكرة تحت القصف – القادمون الجدد يروون وجع النكبتين
"لم أكن قد ولدتُ حين هجّروا جدي من صفد، لكنني عشت تهجيري الخاص في مخيم اليرموك"، تقول اللاجئة الفلسطينية بيسان محمد لبوابة اللاجئين الفلسطينيين، وهي التي وصلت إلى الدانمارك منذ عشر سنوات تقريباً، بعد خروجها من مخيم اليرموك المحاصر آنذاك، حاملة في قلبها نكبتين: الأولى ورثتها عن أجدادها، وأخرى كتبتها بنفسها بين ركام البيوت المحترقة.
تتحدث بيسان عن النكبة كشيء حي، كظل دائم يسير معها حيثما حلّت، وتضيف: هذا العام تمرّ ذكرى النكبة عليّ وأنا أبعد ما أكون عن بلدي، لكن أقرب ما أكون من حقي فيه، بعد ما رأيناه في غزة خلال التسعة عشر شهراً الماضية، لا يمكن ﻷي فلسطيني أن يتعامل مع الذكرى كطقس سنوي فقط.. إنها اختبار يومي للوفاء والانتماء.
"هناك من يموت على حدود الوطن، وهناك من يواصل حمل الرواية عنه، وأنا أشعر بمسؤولية أن أكون من هؤلاء"، تختزل بيسان مشاعر كثير من الفلسطينيين الجدد في أوروبا الذين جاؤوا من أماكن مدمرة، ومخيمات ممزقة، وجراح لم تندمل، القادمين الجدد من غزة وسوريا ولبنان لا يحكون عن النكبة كمجرد ذكرى، بل كواقع متجدد، بعضهم فقد البيت مرتين أو ثلاث، وتاه بين الحدود، وركب البحر، ووصل أوروبا بجسد منهك، وذاكرة مثقلة.
هل زعزعت مغريات الحياة الغربية الانتماء لفلسطين؟
يؤكد خالد فياض وهو لاجئ وناشط فلسطيني من مخيم خان الشيح مقيم في هولندا منذ أحد عشر عاماً أن الذاكرة الفلسطينية لم تفقد قوتها رغم عقود التهجير، ﻷنها لم تكن يوماً مجرد تاريخ، بل ثقافة وهوية متوارثة.
يقول فياض: فلسطين ليست مجرد مكان، إنها ثقافة أجيال المشروع الصهيوني الذي راهن على مقولة الآباء يموتون والأبناء ينسون فشل تماماً، ﻷن أبناء الشتات لم ينسوا، بل حملوا الحكاية عن آبائهم وأجدادهم، واسترقوا السمع إلى روايات الفقد، فبقي الوطن يسكنهم رغم كل البعد.
وتابع فياض حديثه عن النكبة الثانية التي عاشها خلال الثورة السورية: "في سوريا دُمّرت مخيماتنا، وهُجّر الآلاف، وواجه الفلسطيني ظلم نظام لا يقلّ عن الاحتلال في قسوته، لم يكن الإسرائيلي وحده عدونا، بل الزمن العربي أيضاً شارك بالتهجير والقهر، لكن رغم ذلك، لم ينكسر الفلسطيني، ولم يفرّط بوطنه".
وبرغم الاستقرار النسبي في أوروبا، يرى فياض أن مغريات الحياة الغربية لم تنجح في زعزعة الانتماء الفلسطيني، "كل جوازات السفر الأوروبية لم تقدر على انتزاع حبنا لفلسطين، نحن اليوم سفراء وجعها في المنفى، نحمل حكايتها، نوسّع دوائر التعاطف، ونؤمن أننا، رغم كل المسافات، أقرب من أي وقت مضى إلى العودة. ﻷن فلسطين ببساطة.. استثناء".
رغم الألم، تظهر في هذه الشهادات طاقة من الصمود والتشبث بالهوية، بل وحتى مسؤولية مضاعفة لحمل الرواية.
كثيرون بدؤوا في الانخراط في أنشطة تثقيفية وثقافية في المهجر، ينظمون فعاليات لذكرى النكبة، يعلمون أبناءهم اللغة العربية، ويروون لهم قصص فلسطين كما لو كانوا شهود عيان.
أبناء الشتات الطويل – سفراء فلسطين في المهجر
بين شوارع كوبنهاغن، وأحياء باريس، وضواحي برلين، وُلدت أجيال من الفلسطينيين لم يروا فلسطين بأعينهم، لكنهم يحملونها في أسمائهم ولهجتهم وحنينهم العميق، هذا الجيل، الذي نشأ في مجتمعات أوروبية، يتعامل مع النكبة من موقع مختلف لا كذاكرة شخصية، بل كهويّة متجذّرة، وارتباط مصيريّ بوطن لم يروه، لكن لم يغادرهم.
"كنت أتعلم في المدرسة الفرنسية عن الثورة الفرنسية، لكن في بيتنا، كانت الثورة هي النكبة"، تقول فاطمة اللاجئة الفلسطينية التي وُلدت في فرنسا لعائلة هجّرت من حيفا في الأربعينيات من القرن الماضي، ومثلها كثيرون يرون في أنفسهم جزءاً حيّاً من الرواية، لا مجرّد ورثة لها.
النكبة..جرح لا يندمل يؤلم الفلسطيني أينما كان
من قلب برلين، حيث يقيم منذ مايقارب خمسة عقود، يروي إبراهيم إبراهيم، ابن مخيم عين الحلوة في صيدا جنوبي لبنان، وهو منسق عام للجان فلسطين الديمقراطية في ألمانيا وناشط في اللجنة الوطنية الفلسطينية الموحّدة، كيف تتحول ذكرى النكبة إلى فعل مقاومة يومي.
ويقول إبراهيم: إن النكبة ليست مجرد حدث مضى، بل واقع مستمر يعيشه الفلسطينيون في الداخل والشتات على حدّ سواء. هذا العام، تمرّ الذكرى وسط حرب إبادة تمزّق قطاع غزة منذ أكثر من ثمانية عشر شهراً، وتحت حراب اقتحامات لا تتوقف لمدن الضفة الغربية ومخيماتها، كل ذلك يجعل استرجاع النكبة أكثر إيلاماً، ويُرسّخها في الوعي الفلسطيني كجرح مفتوح لا يندمل.
ويضيف إبراهيم أن مشاعر الفلسطيني في أوروبا تتغير من حيث الشكل، لا الجوهر. نعم، قد تختلف طرق التعبير والتفاعل مع القضية مع تغيّر الأدوات كالإعلام الرقمي، والتواصل الاجتماعي لكن جوهر الانتماء يزداد رسوخاً مع الوقت. الفلسطيني في الشتات، حتى إن وُلد بعيداً عن البلاد، يبقى مشدوداً إلى الجذور.
ويؤكد إبراهيم أن محاولات الدمج والإذابة الثقافية في بلدان اللجوء لم تفلح في طمس الرواية أو إسقاط الحق، حيث وفّرت دول اللجوء استقراراً معيشياَََ لكثير من الفلسطينيين، لكنها لم تنتزع منهم انتماءهم، ولم تُنسِهم فلسطين، والجيل الجديد بالذات، بات أكثر وعياً سياسياً، ويستخدم المنصات الحديثة ليس فقط لحفظ الذاكرة، بل لتوسيعها وتدويلها، وبالتالي حق العودة لم يغب، بل عاد بقوة عبر وعي رقمي متطور يحمل قضية إنسانية إلى كل العالم.
الرواية والحق… هل تغيّرت المعادلة؟
في الشمال الأوروبي، بعيدًا آلاف الكيلومترات عن صفد واليرموك وغزة، ما زال الفلسطيني يزرع في أبنائه بذور الهوية الأولى.
علاء البرغوثي، الصحفي والناشط الحقوقي المقيم في السويد، والمدير الإعلامي السابق لمجموعة العمل من أجل فلسطينيي سورية، يتحدث عن نكبة لا تأتيه مرّة في العام، بل تعيش معه كل يوم.
يقول علاء البرغوثي لبوابة اللاجئين الفلسطينيين: تمر ذكرى النكبة هذا العام بشعور حزن وألم مضاعفين، "فمثلي مثل الآلاف من أبناء فلسطينيي سوريا، اضطررنا أن نعيش ذكرى النكبة مرتين، النكبة الأولى مارستها عصابات الاحتلال بحق أهلنا منذ 77 عامًا، والنكبة الثانية كانت في استهداف مخيماتنا من قبل النظام السوري السابق الذي دمرها كما دمر العديد من المدن السورية".
يضيف: في مثل هذه الأيام، بينما أعيش في الشمال الأوروبي، أستذكر كيف كنا نتجمع كناشطين في مخيم اليرموك لتنظيم العديد من الفعاليات، مستذكرًا في الوقت ذاته حسرة جدي على نكبته، وهو يحدثنا عن الترهيب والمجازر التي ارتكبها الاحتلال بحق العائلات الفلسطينية التي اضطرت للجوء إلى سوريا في تلك الأيام.
بالنسبة لعلاء فهو منذ حوالي 13 عامًا يعيش مرارة ذكرى النكبة التي أصبحت مضاعفة مع تهجيره من مخيمه، ولكن هذا العام، مرارة النكبة تتضاعف أكثر في ظل الإبادة التي يواجهها قطاع غزة أمام أسماع وأنظار العالم، "كم أمر مؤلم حقًا أن نبقى ضحايا هذا الاحتلال المجرم طوال 77 عاماً"، يعبر الناشط الفلسطيني.
ويؤكد البرغوثي أن الفلسطينيين حوله عندما وصلوا إلى السويد، ازدادوا تمسكنا أكثر بقضاياهم التي أصبحت جزءًا لا يتجزأ من نشاطاتهم وعملمهم، ويذكر مثالاً أنه عند تنظيم أي نشاط ثقافي مثل معارض الكتاب العربي، تكون فلسطين حاضرة بشكل تلقائي في الأنشطة الثقافية كالمعارض الفنية، الكتب الفكرية، التاريخية، السياسية، وكذلك الأنشطة الموسيقية والفعاليات الأخرى.
"اليوم، جميعنا نعمل من أجل فلسطين، ولكن بوسائل متعددة: الرسام في السويد يرسم لفلسطين، والفنان يغني لفلسطين، والحقوقي يعمل من أجل فلسطين، والإعلامي ينقل الحقيقة".
ويُشدد على أن قضية حق العودة في الشتات من القضايا التي تتكرس في وعي الجيل الجديد الذي وُلد في أوروبا، "مثل ابني الذي وُلد في السويد وعمره الآن ثلاث سنوات، عندما تسأله: من أين أنت؟ يجيب صفد، فلسطين، هذا ليس مجرد كلام، بل هو حقيقة نعيشها، حيث يوجد الآلاف من الأطفال في السويد وأوروبا يحملون ذات الإجابة".
ويؤكد البرغوثي على أن الجرائم التي يرتكبها الاحتلال بحق الفلسطينيين في غزة قد أعادت القضية الفلسطينية إلى قلب النقاشات العالمية، بما في ذلك في أوروبا لا يخفى على أحد أن جرائم الإبادة التي يرتكبها الاحتلال بحق أهلنا في غزة قد أعادت للقضية الفلسطينية مكانتها عالمياً وأوروبياً.
لقد بدأ التأييد الشعبي الأوروبي لفلسطين يشهد زخماً كبيراً ، لم نشهده على الأقل خلال العشرين عاماً الماضية، والرواية "الإسرائيلية" التي جند لها اللوبي الصهيوني في أوروبا، والتي روجت لأسطورة "فلسطين أرض بلا شعب لشعب بلا أرض" صارت تتراجع بشكل ملحوظ.
واليوم، نلاحظ عودة السردية الفلسطينية للانتشار والتوسع، من خلال الفعاليات التي يتم تنظيمها في أوروبا للتضامن مع فلسطين، " بدأنا نرى تفاعلاً كبيراً من الناشطين الأوروبيين، كما بدأ الجمهور الأوروبي في زيارة المواقع الرقمية واقتناء الكتب المترجمة التي تسلط الضوء على الرواية الفلسطينية"، بتفاؤل يشق طريقه من بين الجراح يعبر الناشط الفلسطيني عن الأمل بأن تتبدد آلام النكبات الفلسطينية على شروق الانتصار الفلسطيني.
يعلق الأمل على الأجيال الجديدة من الفلسطينيين في أوروبا، الذين رفضوا النسيان وأثبتوا أنهم حافظوا على قضيتّهم، فأبناء الجيل الثالث من فلسطينيي أوروبا هم من يديرون فعاليات المناصرة لفلسطين، وهم أنفسهم الذين راهن الاحتلال على أنهم سينسون قضيتهم، لكن الحقيقة أنهم لم ينسوا بل طوروا أدواتهم لتسليط الضوء على قضاياهم،خصوصاً وأن أبناء الجيل الثالث من الشباب والشابات يتقنون اللغة المحلية ولديهم معرفة جيدة بالقوانين الحقوقية، ما جعلهم من أفضل السفراء لقضيتهم.
حين تفشل الجغرافيا… وتنتصر الذاكرة
لم تكن النكبة حدثاً عابراً في تاريخ الفلسطينيين، بل صارت امتحاناً يومياً للهوية، ومقياساً للثبات، ومعياراً إنسانياً لأجيال لم تعرف فلسطين بعيونها، لكنها تعيشها في وجدانها.
من أصوات القادمين الجدد الذين واجهوا نكبات متتالية، إلى أبناء الشتات الذين وُلدوا في أوروبا لكن ورثوا الحنين والمقاومة، مروراً بالخبراء والناشطين الذين يرسمون معالم العمل الفلسطيني في المهجر، تتفق جميع الشهادات على حقيقة واحدة: محاولات طمس الهوية والرواية الفلسطينية قد فشلت.
لم تنجح حرب التهجير، ولا التجنيس، ولا خطاب الاندماج الكامل، في اقتلاع فلسطين من الذاكرة، بل على العكس، كل محاولة للنسيان قوبلت بمبادرة للذكرى، كل صمت قسري وُلد منه صوت جديد، وكل منفى صار ساحة جديدة لرواية الحق.
اللاجئون الفلسطينيون في أوروبا لم يعودوا متلقين فقط، بل صاروا فاعلين: يقيمون المعارض، يُحيون المناسبات، يوثقون الروايات، يُربّون أبناءهم على أسماء القرى، ويغنون لفلسطين بلغات العالم.
في زمن الصورة والصوت، صار الرسام الفلسطيني يرسم عكا وهو في أوسلو، والمغني يهتف للقدس من بروكسل، والصحفي يُنقل مجازر غزة من ستوكهولم، والطفل يقول في ساحة أوروبية: أنا من صفد.
هكذا، فشلت النكبة في تحقيق هدفها الأهم: النسيان.
فلسطين، بالنسبة لهؤلاء، ليست مجرد أرض تحت الاحتلال، بل فكرة عصيّة على القتل، وهوية محصّنة بالحكاية، وحقّ لا تضعفه جنسية أجنبية، ولا تغريه إقامة دائمة.
وهكذا، يثبت الفلسطيني في كل مكان أنه لم ينسَ، ولن ينسى.
بل يُحيي الذكرى… كي لا تموت البلاد.