شهدت مدن أوروبية عدة، وعلى رأسها السويد وهولندا، خلال شهر أيار/ مايو 2025، سلسلة من الفعاليات الشعبية الكبرى لإحياء الذكرى الـ77 لنكبة فلسطين.
جاءت هذه التحركات بالتزامن مع حرب الإبادة "الإسرائيلية" المستمرة على قطاع غزة، ما منح المناسبة بُعداً سياسياً وإنسانياً استثنائياً، وأضفى على مشهد التضامن زخماً غير مسبوق، يعكس ترسّخ الذاكرة الفلسطينية ورفض اللاجئين ومحبي العدالة طمسها أو تجاوزها.
في مدينة "مالمو" السويدية، شكّلت المظاهرة الحاشدة التي نظمتها شبكة "أوقفوا إسرائيل" يوم الأحد 11 أيار/ مايو، واحدة من أبرز المحطات التضامنية هذا العام، حيث شارك فيها آلاف المتظاهرين من أبناء الجالية الفلسطينية والعربية، ومتضامنون سويديون وأوروبيون، وحتى من أمريكا اللاتينية، بالإضافة إلى مشاركة فعالة من "المجموعة 194".
إعلاء الصوت في وجه مجازر الإبادة
جابت المسيرة شوارع مالمو، ورفعت شعارات تُندد بالاحتلال وجرائمه، وطالبت بوقف فوري للحرب، وبتحرك دولي عاجل ضد سياسة الحصار والتجويع المفروضة على قطاع غزة.
وفي هذا السياق، قالت يُمن قدورة، المتحدثة باسم معسكر "أوقفوا إسرائيل" وناشطة سياسية فلسطينية من سكان مالمو، لبوابة اللاجئين، كلاجئة فلسطينية لأب وأم من مواليد نكبة 1948، نضالي مستمر من أجل حرية فلسطين وحق العودة، في كل 15 أيار نخرج في مالمو لإحياء هذه الذكرى. أما هذا العام، فكان لزاماً أن يكون صوتنا أعلى واحتجاجنا أقوى، في ظل جرائم الاحتلال في غزة والضفة، وسكوت أوروبا المتواطئ عبر تسليح إسرائيل ودعمها.
وأضافت قدورة: نحن 87 منظمة نعمل ضمن معسكر "أوقفوا إسرائيل"، وننظم فعاليات على مدار أسبوع كامل، من ورش ومحاضرات إلى مظاهرات وعروض أفلام. هذا العام كانت الفعاليات ضخمة، شارك فيها أكثر من عشرة آلاف متظاهر، ونضالنا سيستمر من أجل فلسطين حرة".
إلى جانب التظاهرة، استضاف مركز (Poeten På Hörnet ) في مالمو معرضاً تشكيلياً للفنان الفلسطيني مأمون الشايب، ضم لوحات تعبّر عن محطات النكبة، والمجازر، والشتات، والهوية الوطنية، وصولاً إلى الصمود الشعبي في غزة اليوم.
وفي مدينة "هلسنبوري" السويدية، نظمت الفعاليات الشعبية يوم السبت 17 أيار/ مايو مظاهرة كبرى بعنوان "يوم النكبة".
وعلى بُعد أمتار ثقافية، وتزامناً مع المناسبة، شاركت جمعية المرأة الفلسطينية في مهرجان الثقافة العالمي في مدينة لوند، من خلال عرض دبكات شعبية وأغانٍ تراثية فلسطينية.
مسؤولة الجمعية نهلة الحسن قالت: "كان حضورنا في المهرجان رسالة حية بأن التراث الفلسطيني ليس فقط لوناً من ألوان الثقافة، بل هو فعل مقاومة يحفظ الهوية ويعيد سرد الحكاية التي يحاول الاحتلال طمسها. الفتيات أدين رقصات تراثية على أنغام وطنية تُجسد ذاكرة ممتدة عبر الأجيال".
أما العاصمة "ستوكهولم"، فقد احتضنت مسيرة صامتة انطلقت من ساحة (ODENPLAN ) وانتهت في (Gustaf Adolfs Torg ) ، دعا إليها ناشطون للتعبير عن الحزن العميق لما يتعرض له الفلسطينيون في غزة، حيث ارتدى المشاركون اللون الأسود وساروا في صمت، في مشهد رمزي قوي ضد الإبادة الجارية.
أحيت #ستوكهولم الذكرى ال77 لنكبة الشعب الفلسطيني pic.twitter.com/Bq37vFUgIZ
— Unews Media (@unewsagency2) May 19, 2025
وفي مدينة أوبسالا، خرجت مظاهرة داعمة لغزة ورافضة للنكبة المستمرة، حمل المشاركون فيها الأعلام الفلسطينية وطالبوا بوقف العدوان ورفع الحصار.
تزامن هذا مع مظاهرة في العاصمة الدنماركية "كوبنهاغن عبّر فيها المتظاهرون عن تضامنهم مع غزة، ورفضهم لاستمرار الاحتلال وتواطؤ الدول الغربية.
وفي عام 2025، شهدت هولندا سلسلة فعاليات متواصلة لإحياء الذكرى الـ77 للنكبة، انطلقت قبل موعد الذكرى واستمرت بعدها، وسط تفاعل واسع وزخم شعبي لافت، وقد شارك في هذه الفعاليات أبناء الجالية الفلسطينية والعربية إلى جانب نشطاء هولنديين وأوروبيين، في ظل استمرار العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، مما أضفى طابعاً أكثر إلحاحاً وغضباً على الفعاليات هذا العام.
ومن أبرز وأكبر هذه الفعاليات المركزية كانت تلك التي شهدتها العاصمة الهولندية أمستردام، في ساحة دام الشهيرة، حيث احتشد جمهور غفير من الفلسطينيين، العرب، والمتضامنين الهولنديين. تخللت الفعالية كلمات مؤثرة وشهادات حية ربطت بين نكبة 1948 والمعاناة المستمرة في قطاع غزة، مما عمّق الأثر الإنساني والسياسي للذكرى هذا العام.
كما شهدت نفس الساحة اليوم السبت 17 أيار/ مايو الجاري مظاهرة ضخمة ، دعت إليها الجالية الفلسطينية في ساحة، بمشاركة حاشدة من الفلسطينيين والهولنديين الداعمين للحق الفلسطيني.
وشهد الحرم الجامعي لجامعة أوتريخت شكلاً جديدًا من أشكال التضامن، حيث أطلق طلاب الجامعة في 7 مايو اعتصامًا مفتوحًا، نصبوا خلاله خيامًا داخل الحرم الجامعي، مطالبين بقطع العلاقات الأكاديمية والمالية مع مؤسسات إسرائيلية، وذلك انسجامًا مع حملة المقاطعة الأكاديمية العالمية لإسرائيل (BDS).
كما استمرت الوقفات التضامنية المتزامنة يوم الخميس 15 أيار في مدن أوتريخت، ماستريخت، لايدن، بريدا، ألكمار، روتردام، وزاندام، وشارك فيها المئات لإحياء ذكرى النكبة والاحتجاج على جرائم الاحتلال في غزة.
تحوّل النكبة من ذكرى إلى واقع سياسي مستمر
في حديثه لبوابة اللاجئين الفلسطينيين، أكد الصحفي والباحث الفلسطيني ماهر شاويش، المقيم في هولندا، أن العدوان المستمر على غزة هذا العام منح فعاليات ذكرى النكبة طابعاً أكثر إلحاحاً وحيويةـ فالمناسبة لم تعد تقتصر على استذكار مأساة 1948، بل تحوّلت إلى ساحات احتجاج حي ضد الإبادة الجارية، ما أدى إلى تصاعد حجم المشاركة الشعبية والإعلامية في مختلف أنحاء أوروبا.
ولفت شاويش إلى تحوّل ملحوظ في مزاج الرأي العام الأوروبي، حيث بات يُنظر إلى النكبة كحدث متواصل لا يزال الفلسطينيون يعيشونه حتى اليوم، وقد انعكس هذا الوعي بوضوح في المظاهرات الكبرى التي شهدتها العواصم الأوروبية، ومنها روتردام التي خرج فيها أكثر من عشرة آلاف متظاهر، مطالبين بوقف الإبادة الجماعية في فلسطين.
هذا الإدراك الجديد، وفق شاويش، أسهم في إعادة تعريف "النكبة" كقضية مستمرة تتطلب مواجهة سياسية وأخلاقية، فشعارات المتظاهرين وتصريحات المشاركين لم تكتفِ بإدانة ما يحدث اليوم، بل ربطته صراحة بجذور النكبة الأولى عام 1948، ما فتح الباب أمام مساءلة أعمق للتاريخ والسياسات الراهنة.
وأوضح أن هذا التحول تجلى في مواقف رسمية نادرة، أبرزها دعوة عمدة "أمستردام"، "فيمكه هالسيما"، للحكومة الهولندية إلى اتخاذ موقف واضح ضد التدمير والتجويع في غزة، واصفاً ما يحدث بأنه "جريمة بحق الإنسانية". كما تبنّت مجالس بلدية في مدن أخرى مثل "أوترخت" و"لاهاي" وأرنهيم توصيف "الإبادة الجماعية"، في سابقة تشير إلى تنامي تأثير الرأي العام على القرار المحلي.
واعتبر شاويش أن هذا التحرك السياسي يمثل نموذجًا عمليًا لقوة الربط بين النكبة المستمرة منذ 77 عاماً والواقع الراهن في غزة، ودليلاً على أن التضامن في أوروبا لم يعد مجرد تعاطف رمزي، بل تحوّل إلى أداة ضغط فعّالة داخل مؤسسات القرار المحلي.
إنها لحظة مفصلية يُعاد فيها تعريف النكبة، لا كذكرى سنوية فحسب، بل كجراح مفتوحة تتطلب استجابة عادلة وإنسانية من المجتمع الدولي، ومن داخل العواصم الأوروبية تحديداً.
بين غزة والنكبة: وحدة المشهد واستحالة الفصل
في سياق متابعة الفعاليات الأوروبية لإحياء الذكرى الـ77 للنكبة، أكد الصحفي الفلسطيني المقيم في هولندا إياد صنديد لبوابة اللاجئين أن الفصل بين ما يحدث اليوم في غزة وبين النكبة التاريخية لم يعد ممكناً، معتبراً أن العدوان المستمر على القطاع هو أحد فصول النكبة، بل قد يكون الفصل الأقسى على الإطلاق.
وأشار صنديد إلى أن أسبوع النكبة هذا العام شهد ازدياداً ملحوظاً في حجم ونوعية الفعاليات، لكن الواقع الدموي في غزة ألقى بظلاله الثقيلة على طبيعة الإحياء، فجعل التركيز ينصبّ على ضرورة إنهاء شلال الدم بأي ثمن، أكثر حتى من التفكير بالنكبة كمأساة تاريخية.
أما على صعيد الرأي العام الأوروبي، فقد بيّن صنديد أن العدوان الوحشي على غزة فتح أعين الكثيرين على بدايات القضية الفلسطينية، مشيراً إلى أن الروايات التبريرية التي رُوّجت لسنوات عن أحقية إسرائيل في الأرض الفلسطينية بدأت تتهاوى أمام مشاهد التجويع والقتل والدمار التي تنقلها وسائل الإعلام، والتي يصعب تبريرها تحت أي غطاء سياسي أو ديني
وفيما يتعلق بإعادة تعريف النكبة، عبّر صنديد عن قلقه من استمرار بعض المؤسسات والفعاليات في التعامل مع النكبة كمجرد مناسبة فولكلورية. وقال: في السابق، كان من الممكن تبرير الرقص والدبكة كوسيلة للحفاظ على الهوية الثقافية في وجه محاولات المحو، لكن اليوم، ومع ما يحدث في غزة، أصبح من الضروري إعادة النظر بهذا النهج، لأن النكبة لم تعد ذكرى بل واقع مستمر، يتطلب أدوات مقاومة سياسية واجتماعية ومعرفية أكثر فاعلية.
واختتم بالقول: ما يجري في غزة اليوم يفرض علينا التفكير في كيفية إنهاء مسلسل تعداد سنوات النكبة، وكأننا أمام موسم جديد من مسلسل لا يريد أن ينتهي، بينما الحقيقة أن نهايته يجب أن تُفرض، لا أن تُنتظر.
من ذكرى إلى فعل… النكبة مستمرة والمقاومة تتجدّد
تشير فعاليات إحياء الذكرى الـ77 للنكبة هذا العام في أوروبا، من السويد إلى هولندا مروراً بعواصم ومدن عدة، إلى تحول نوعي في طريقة استذكار النكبة. لم تعد مجرد لحظة رمزية مرتبطة بماضٍ بعيد، بل باتت انعكاساً حياً لمعاناة متواصلة وجرح مفتوح اسمه غزة، لقد أعادت المجازر اليومية تعريف النكبة كقضية حية، وأجبرت الجماهير على الخروج من الإطار التقليدي للذكرى إلى ميادين الفعل والاحتجاج.
زخم المشاركة، ووضوح الرسائل، واتساع رقعة التضامن، كلها مؤشرات على أن الرأي العام العالمي وخاصة في أوروبا يشهد تحولات حقيقية. تحولات بدأت تؤثر في مواقف البلديات، والنقابات، والمؤسسات، وقد تشكّل على المدى الأبعد ضغطًا سياسيًا ملموسًا يُعيد الاعتبار للقضية الفلسطينية ويطالب بمحاسبة الاحتلال على جرائمه المستمرة.
إنها لحظة مفصلية بين ذاكرة النكبة وواقع الإبادة، بين حق العودة وواجب التحرك العاجل. وما بينهما، يقف الفلسطينيون وأنصارهم في أوروبا والعالم، ليقولوا: لن ننسى، لن نغفر، ولن نصمت. النكبة مستمرة… وكذلك المقاومة.