لا تزال بندقية الفلسطيني في لبنان محاصرة منذ أكثر من 50 عاماً، بسياقات ملتبسة ومعقدة، يمكن أن نحصرها بسؤالين: هل هي سلاح دفاع أم مصدر تهديد؟ هل هي بقايا ثورة أم عبء سيادي؟ فهذه الأسئلة اعتادت الدولة اللبنانية وكذلك المجتمع السياسي على طرحها، لتصبح المخيمات الفلسطينية، بما فيها من بشر وسلاح، مع كل أزمة، عنواناً جاهزاً لاتهامات متجددة، وأحياناً شماعة لتبرير الانقسامات أو التوترات الأمنية والسياسية في البلاد.
لكن لا بد ان نجيب أولاً، ما هو السلاح الفلسطيني فعلاً؟ وكيف وصل إلى لبنان؟ ولماذا أصبح قضيّة تتجدد ولا تُحل بعد كل هذه العقود؟ الأهم، ما الذي يمثّله هذا السلاح لمجتمع لاجئين لم يحصل على الحد الأدنى من حقوقه الإنسانية والمدنية منذ نكبته؟
لهذا السلاح مسار تاريخي، وعلاقته متشابكة مع الدولة والمجتمع، وينم الجدل حوله عن الخلفيات السياسية والاجتماعية التي صنعت هذه الإشكالية، وأبقتها دون معالجة حقيقية.
بين الثورة والوصمة: بداية الوجود الفلسطيني المسلّح في لبنان
لم يكن السلاح الفلسطيني في لبنان نتاج خيار فردي، بل كان نتيجة مسار إقليمي معقّد فرضته تحولات كبرى بعد نكبة 1948 وتهجير الفلسطينيين من أرضهم ورميهم في دول الجوار والشتات، ثم نكسة 1967 التي أكملت فعل النكبة، ومع خروج منظمة التحرير الفلسطينية من الأردن إثر أحداث "أيلول الأسود" عام 1970، وجدت المقاومة الفلسطينية، في لبنان، ملاذاً جديداً سرعان ما تحوّل إلى ساحة اشتباك سياسي وعسكري مع كيان الاحتلال.
في اتفاق القاهرة عام 1969، الذي أبرمته الدولة اللبنانية برئاسة شارل الحلو، مع منظمة التحرير الفلسطينية برعاية مصرية برئاسة جمال عبد الناصر، حينذاك، أضفى شرعية قانونية على هذا الوجود، وجرى بموجبه تنظيم العمل الفلسطيني الفدائي وتحديد أطر تحركاته داخل المخيمات، وفي المناطق الحدودية، وجرى السماح للفلسطينيين بالمشاركة في "الكفاح المسلح" من لبنان، مع تأكيد الطرفين على احترام السيادة اللبنانية.
ورغم أنّ هذا الاتفاق حظي بتأييد واسع في ذلك الوقت، وجرى إبرامه بمباركة من قوى اليمين اللبناني المسيحي، أشد القوى اعتراضاً على الوجود الفلسطيني في لبنان، ظل دائماً مادة خلافية بين من اعتبره ضمانة لحقوق الفلسطينيين، ومن رأى فيه تعدياً على سيادة الدولة اللبنانية.
سلاح الكرامة والبقاء: وجهة نظر اللاجئ الفلسطيني
أما داخل المخيمات، لم يكن السلاح مجرّد أداة قتال أو ضغط، بل تحوّل إلى عنصر نفسي واجتماعي له دلالة وجودية بالنسبة لمجتمع اللاجئين الذي يًصنّف على أنه الأكثر هشاشة في لبنان، حيث يعاني حرماناً كاملاً من الحقوق المدنية، إضافة إلى صدمات تاريخية ونفسية جماعية من المجازر الدموية التي طالته على يد أطراف لبنانية، مثل مجازر تل الزعتر وصبرا وشاتيلا، لتصبح البندقية رمزا للكرامة، ورمزا لمعنى أن تكون فلسطينياً غير مستباح، أو تحمي نفسك من الاستباحة، في بيئة لا تزال تعتبره "جسماً غريباً" يجب التخلص منه.
وساهم خطاب القوى اليمينية المسيحية اللبنانية، منذ السبعينيات، في ترسيخ هذه النظرة العدائية للاجئ الفلسطيني وعزله عن المجتمع والسياسة في البلاد، وجرى اعتباره خطراً على الكيان اللبناني، لا من حيث السلاح فحسب، بل أيضاً من حيث الديموغرافيا والثقافة.
لم يبق هذا الخطاب، في الأطر النظرية والإعلامية، بل تَرجَم نفسه في مجازر وإبادات منظمة، كما فعل الاحتلال "الإسرائيلي" حين دعم حلفائه المحليين في مجزرة صبرا وشاتيلا عام 1982. وفي هذا السياق، تكشف اعترافات ضباط "إسرائيليين"، مثل الجنرال "عاموس جلعاد" قبل أعوام، بأن الغرض من السماح لميليشيات اليمين اللبناني بدخول المخيمات لم يكن فقط الرد العسكري، بل محو كامل للوجود الفلسطيني عبر الإبادة.
ما بعد الحرب: إلغاء الاتفاق وتقييد السلاح
بعد اجتياح لبنان عام 1982 وخروج منظمة التحرير الفلسطينية، بدأ العدّ التنازلي لاتفاق القاهرة، إلى أن ألغاه البرلمان اللبناني رسمياً عام 1987، ما أعاد العلاقة بين الدولة اللبنانية والفلسطينيين إلى نقطة الصفر، فلم يعد اللاجئ الفلسطيني يتمتع بأي اعتراف سياسي أو قانوني، وغدت المخيمات الفلسطينية بمثابة جزر معزولة في محيط رافض، محرومة من الخدمات، ومحصورة في إطار تهميش مقونن.
أما السلاح، فبات محصوراً داخل المخيمات بشكل أساسي، دون أي دور استراتيجي، سواء على مستوى التوازنات الداخلية، أو في مواجهة الاحتلال "الإسرائيلي" عبر الحدود. وقد تمّت تصفية معظم الوجود المسلح الفلسطيني خارج المخيمات بعد اجتياح لبنان عام 1982 وخروج منظمة التحرير، وما تلاه من حرب المخيمات التي اندلعت بين أيار/مايو 1985 وتموز/يوليو 1988. حيث خاضت فيها حركة أمل، بدعم من نظام حافظ الأسد وفصائل فلسطينية موالية له، معارك عنيفة ضد قوات حركة "فتح" بقيادة ياسر عرفات ومقاتلي "المرابطون"، تركزت حول مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في بيروت، وخاصة صبرا وشاتيلا وبرج البراجنة.
خلال تلك الفترة بقيت بعض القوى الفلسطينية وقواعدها العسكرية تحت مظلة "حزب الله"، الذي استفاد من خبراتها خلال مرحلة تأسيسه في مطلع الثمانينيات، ووظفها في إطار مشروعه. لكن معظم تلك القواعد والفصائل جرى تفكيكها تدريجياً بعد اتفاق الطائف، في سياق إنهاء ما تبقى من الوجود المسلح للثورة الفلسطينية في لبنان مطلع التسعينات.
بينما استمر وجود قواعد محدودة لتنظيم "القيادة العامة" المعروف بتبعيته لمخابرات النظام السوري، إلى جانب فصائل أخرى لا تملك امتداداً شعبياً واسعاً، بل اقتصرت على كونها ميليشيات معزولة كـ"فتح الانتفاضة". وقد جرى إغلاق آخر هذه القواعد في كانون الثاني/يناير 2025 بقرار من الجيش اللبناني، ليطوى بذلك فعلياً ملف الوجود المسلح الفلسطيني خارج المخيمات.
اتفاق الطائف، الذي أعاد تشكيل لبنان ما بعد الحرب الأهلية، تجاهل بشكل شبه كامل قضية اللاجئين الفلسطينيين. لم تُطرح مسألة حقوقهم المدنية، ولا آليات إدماجهم، ولا حتى تنظيم وضع سلاحهم. بل تمّت معاملتهم كأمر واقع، على هامش الدولة، تحت إدارة أمنية صلبة، دون رؤية سياسية.
سلاح الأزمة المستدامة: لماذا يُستدعى في الحاضر؟
يعود الحديث عن "سلاح المخيمات" إلى الواجهة من جديد، لا على خلفية واقعية سببتها مشكلاته للسيادة وللمجتمع اللبنانيين الغارق في أزمات في كل ركن من أركانه، بل ضمن لعبة التجاذب السياسي الداخلي اللبناني.
فبعد الحرب الأخيرة بين حزب الله والاحتلال "الإسرائيلي" ومشاركة بعض القوى الفلسطينية في المعارك، برز الحديث عن "الخطر الفلسطيني"، وأُعيد توجيه الاتهامات لبعض الفصائل الفلسطينية بافتعال "مشكلات" على الحدود، ما يشي بمحاولة خلق "بعبع" فلسطيني جديد، تبرر به قوى لبنانية عجزها عن معالجة أزماتها البنيوية وانعكاساتها السياسة في ممارسة " السيادة"، وتحمله مسؤولية الاعتداءات " الإسرائيلية".
وفي هذا، لا جديد يُذكر، فاليمين اللبناني الذي عجز لعقود عن إنتاج سياسة واضحة تجاه اللاجئ الفلسطيني، لا يزال يراه عبئاً سيادياً وديموغرافياً، ويطرح حلولاً أمنية تبدأ وتنتهي بالمخيم، دون أن تلامس جذور الأزمة وهي بوضوح: حرمان اللاجئين من أبسط الحقوق، ومعاملتهم كمقيمين مؤقتين في انتظار الترحيل.
من هنا تظهر مسألة السلاح الفلسطيني في لبنان ليس كقضية أمنية بقدر ما هي انعكاس جديد في التعامل مع قضية اللاجئين، فكتلة اجتماعية كبيرة من اللاجئين متروكة بلا حقوق في العمل والتعليم والتملك، وبلا ضمان صحي، ولا آفاق للمستقبل لدى الكتلة الأكبر من شبانه، قد تصبح فيه البندقية تعبيرا عن رفض المجهول والمستقبل غير مضمون، وقضية حماية وكرامة في هذه الأحوال.
بين من يرى هذا السلاح تهديداً لسيادة لبنان، ومن يراه سلاحاً لحماية مجتمع مهمش ومستضعف، تضيع الحقيقة بين الرؤى المتجادلة والمتساجلة في آن، لكن يبقى الأساس: لا يمكن الحديث عن نزع سلاح فلسطيني دون الحديث أولًا عن منح حقوق مدنية وإنسانية كاملة، فالسلاح الذي يحمي المخيمات من الاجتثاث، هو نفسه دليل على اغترابها داخل بلد لم يعترف بعد بوجودها كجزء من نسيجه.
إن نزع فتيل هذه الإشكالية لا يبدأ من تفتيش الخنادق، بل من إصلاح القوانين، ومن الاعتراف بإنسانية اللاجئ الفلسطيني، قبل أي شيء آخر.