منذ بدء حرب الإبادة "الإسرائيلية" على قطاع غزة وتشديد الحصار، لجأت بعض الدول والجهات الدولية إلى استخدام الإنزال الجوي لإيصال المساعدات الإنسانية، بتنسيق مع جيش الاحتلال، في مشهد اعتبره الفلسطينيون ووكالات الأمم المتحدة ومنظمات حقوقية "طريقة غير آمنة وغير إنسانية" لتوزيع الإغاثة، خاصة في ظل ظروف الحرب وانهيار البنية التحتية.

وكالة "أونروا" ومنظمات إغاثية دولية أكدت أن هذا الأسلوب لا يعد بديلاً مقبولًا للتوزيع المنظم عبر قنوات إنسانية، محذّرة من أن الإنزال الجوي غالبًا ما يكون عشوائيًا، وقد يهبط في مناطق خطرة أو غير مأهولة، أو يسقط على رؤوس المدنيين، مما يحوّل "شريان الحياة" إلى أداة موت.

الأرقام الرسمية الصادرة عن المكتب الإعلامي الحكومي في غزة تظهر بوضوح حجم الكارثة؛ إذ أسفرت عمليات الإنزال الجوي منذ بدء استخدامها عن استشهاد 23 شخصًا وإصابة 124 آخرين جراء سقوط صناديق المساعدات عليهم مباشرة. هذه الحوادث المأساوية جعلت من المساعدات الجوية "مصيدة إنسانية" بدلًا من أن تكون وسيلة إنقاذ، ما دفع إلى تجديد المطالبات بوقفها واعتماد أساليب توزيع تضمن الكرامة والسلامة.

آخر هذه المآسي وقعت قبل أيام، حين استشهد الطفل الفلسطيني مهند عيد (14 عامًا) من مخيم النصيرات، بعد أن سقطت على رأسه مظلة تحمل صناديق مساعدات إنسانية أُلقيت من طائرة. الحادثة أثارت موجة غضب واسعة، حيث رأى فيها الأهالي تجسيدًا لفشل المجتمع الدولي في تأمين أبسط شروط السلامة أثناء إيصال المساعدات، وسط تساؤلات عن جدوى هذا الشكل من الإغاثة في ظل توفر طرق بديلة أكثر أمانًا.

كان مهند قد خرج لإحضار شيء لإطعام عائلته، وفي انتظار الحصول على بعض المساعدات، تحوّلت لحظة الأمل إلى مأساة، وسقط منطاد المساعدات فوق رأسه مباشرة، ما أدى إلى ارتقائه على الفور.

في منزل العائلة، جلس والدا الشهيد يتحسسان موضع نومه، ويتفقدان ملابسه وألعاب طفولته، ويستعيدان ذكرياتهما، وكيف كان يضم ألعابه ويقبّلها، ثم يحاولان استيعاب نبأ رحيله، وهو الشهيد الرابع الذي فقداه في الحرب.

110825_Nusaierat_BA_00(15).jpg

زكريا علي، والد الشهيد، من مخيم النصيرات، يبلغ من العمر 60 عامًا وأب لأربعة شهداء، يروي كيف فقد عائلته واحدًا تلو الآخر: "أول ما فقدت كانت ابنتي المتزوجة وعائلتها عقب نزوحها، وكان عمرها 30 عامًا".

وتابع: "في السادس والعشرين من رمضان استشهد ابني أحمد (25 عامًا) أثناء وجودي في المستشفى بشأن عملية لابنتي. أخبرني بعض الصحفيين بإصابته، ركضت ووجدته مضرجًا بدمائه، كان الخبر صاعقة لا أحتملها، وما زلت أشعر أنه حي".

ويؤكد زكريا أن ابنه مهند، كان قد ذهب للحصول على المساعدات، لكن إحدى عمليات الإنزال الجوي سقطت فوقه مباشرة، كما وثّق مقطع فيديو، مضيفًا: "مرة من المرات ذهب وعاد بلا شيء، لأن هذه المساعدات عندما تسقط على الأرض لا يستفيد منها أحد، فهي تتناثر وتختلط بالرمال. كنت أنصحه بعدم الذهاب، لأنها مصيدة؛ كل يوم يذهب العشرات في ريعان شبابهم ولا يعودون. هذه ليست طريقة إنسانية، نحن نرفضها ونؤيد توزيع المساعدات عبر أونروا؛ لأنها مؤسسة دولية تحترم الإنسان".

ويحمّل زكريا المجتمع الدولي مسؤولية ما جرى، قائلاً: "أقول للعالم: أين إنسانيتكم؟ حتى مساعداتكم قاتلة. أحمل الاحتلال والطائرات التي ترمي المساعدات المسؤولية. أتمنى أن يكون مهند آخر شهيد بهذه الطريقة".

110825_Nusaierat_BA_00(7).jpg

أما والدة الشهيد مهند، فتقول بصوت متهدج: "مهند كان روحي ومهجة البيت. تفاجأت بأنه ذهب ليتلقى مساعدات من الإنزال الجوي، وسقط فوقه مباشرة منطاد الإنزال. ذهب ليأكل ويسد رمقنا، لكن هذه الطائرات ترمي المساعدات لتقتل الناس. لا أسامحهم، بعده لا نفس لي للحياة، ولا أستطيع الصبر".

وتروي الأم فقدان بقية أبنائها: "ابنتي الكبيرة استشهدت مع زوجها، وابني الثاني ذهب للتكية ليحضر لنا شيئًا فأصابوه مباشرة، والثالث ذهب ليجمع حطبًا للطهي فاستهدفوه أيضًا. لم يتبقّ لي أبناء، أخذوهم مني واحدًا واحدًا".

110825_Nusaierat_BA_00(19).jpg

وتختتم حديثها بمناشدة: "خبر استشهاد مهند كان كالصاعقة. أتمنى لو سلمونا المساعدات على الأبواب بدل أن يقتلونا بها. أين الدول التي ترحمنا؟ نحن بشر ونريد أن نعيش بكرامة وأمان. مطلبنا وقف إطلاق النار وإدخال المساعدات، فلا ماء ولا طعام ولا حياة إنسانية لنا".

وتعكس هذه الحادثة المؤلمة مأساة مضاعفة يعيشها الفلسطينيون في غزة، حيث لا يقتصر الخطر على القصف والقتل المباشر، بل يمتد حتى لأساليب إيصال المساعدات، التي من المفترض أن تكون شريان حياة، لكنها في ظروف الحرب والحصار تحوّلت إلى أداة قتل للفلسطينيين.

بوابة اللاجئين الفلسطينيين

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد