لم تكن توصية الاتحاد الأوروبي بمنح الفلسطينيين القادمين من سوريا صفة اللاجئ تلقائياً مجرّد تحديث تقني في سياسة اللجوء، بل جاءت كاعتراف متأخر بحقيقة ظلّت قائمة لسنوات: هناك فئة خرجت من كل الأطر القانونية، وباتت بلا حماية فعلية.

فالقرار لم يصدر في ذروة الحرب السورية، ولا في سنوات الحصار والمجازر، بل بعد سقوط نظام بشار الأسد، وفي لحظة أوروبية يُعاد فيها تعريف الخطر، وتقليص نطاق الحماية، وإعادة ترتيب ملف اللجوء برمّته.

هنا تحديداً، يصبح الفلسطيني السوري اختباراً صعباً: لا يمكن تبرير تجاهله قانونياً، ولا يمكن دمجه بسهولة في سردية “انتهاء الخطر."

الفلسطينيون في سوريا… تاريخ استقرار بلا جنسية

منذ نكبة 1948، شكّل الفلسطينيون في سوريا واحدة من أكثر مجموعات اللجوء استقراراً من حيث الحقوق الاجتماعية، دون أن يحصلوا يوماً على جنسية أو حماية سيادية، كان هذا "الاستقرار النسبي" قائماً على معادلة هشة فهناك دولة مضيفة تمنح حقوقاً مدنية محدودة، ووكالة دولية (أونروا) تتولى التعليم والصحة والإغاثة، وغياب تام للحماية السياسية أو القانونية الدولية.

مع اندلاع الثورة السورية، تهاوت هذه المعادلة. دُمّرت المخيمات، وتعرّض الفلسطينيون للقتل والحصار والاعتقال، ثم وجدوا أنفسهم بعد سقوط النظام أمام واقع أشد قسوة: لا دولة، ولا وكالة، ولا إطار بديل.

"أونروا" والانهيار الذي كشف المستور

لم يكن تراجع دور "أونروا" نتيجة عامل واحد، بل حصيلة عملية طويلة من الإضعاف المتعمد، يمكن تتبعها على ثلاثة مستويات رئيسية:

أولاً - التجفيف المالي المتعمد:

تعتمد "أونروا" على التمويل الطوعي من الدول المانحة، ما جعلها عرضة للابتزاز السياسي. وقد بلغت الأزمة ذروتها مع قرار إدارة الرئيس الأميركي "دونالد ترامب" عام 2018 وقف تمويلها كلياً، في سياق سياسي أوسع هدف إلى نزع الصفة القانونية عن اللاجئين الفلسطينيين وتقليص تعريف "اللاجئ" عبر الأجيال وتمهيد الأرضية لتصفية ملف اللاجئين كأحد ملفات الحل النهائي.

وبالرغم من استئناف بعض التمويل لاحقاً، إلا أن الوكالة دخلت مرحلة عجز مزمن، تُدار فيها الأزمات بدل حلّها.

وثانياً- الحرب السياسية على شرعية الوكالة

ترافقت الأزمة المالية مع حملات سياسية وإعلامية منظمة، ركّزت على عدة جوانب منها التشكيك في ما يُسمّى "حياد" الوكالة، وربطها بسرديات أمنية، ومحاولة الضغط لنقل ملف اللاجئين من إطار أممي إلى ترتيبات إقليمية غامضة.

هذه الحملات لم تستهدف أداء "أونروا" فحسب، بل فكرة الحماية ذاتها، بوصفها عائقاً أمام فرض حلول سياسية غير عادلة.

وثالثاً - تفريغ الدور الوظيفي

مع تراجع الموارد والضغوط السياسية، تحوّل دور "أونروا" تدريجياً من وكالة حماية إلى جهة إغاثة محدودة، بالكاد تؤمّن الحد الأدنى من الخدمات.

في سوريا، أدى ذلك إلى:

تعطّل للعديد من الخدمات الأساسية التي كانت تقدمها الوكالة، كالمدارس والمراكز الصحية في عديد من المخيمات الفلسطينية في سوريا، وغياب أي تدخل فعّال أثناء حصار المخيمات وتدمير بعضها، وترك الفلسطينيين لمصيرهم بعد تهجيرهم للمرة الثانية بوصفهم "خارج الولاية الفعلية".

وهنا لم تعد "أونروا" قادرة على تبرير الاستثناء القانوني الذي استند إليه المجتمع الدولي لعقود.

السقوط القانوني للاستثناء الفلسطيني وإعادة تعريف الخطر

تنص المادة (1) من اتفاقية جنيف للاجئين لعام 1951 على استثناء اللاجئين الفلسطينيين من نطاق الاتفاقية، طالما أنهم يتلقون حماية أو مساعدة من هيئة أممية أخرى، لكن الفقرة ذاتها واضحة في شقّها الثاني: "إذا توقفت هذه الحماية أو المساعدة لأي سبب، يصبح اللاجئ الفلسطيني تلقائياً مشمولاً بأحكام الاتفاقية".

ما حدث في سوريا يُعدّ، وفق المعايير القانونية، توقفاً فعلياً للحماية، لا مجرد تراجع جزئي، وبذلك، فإن استمرار استثناء الفلسطيني السوري لم يعد مجرد إشكال أخلاقي، بل مخالفة قانونية صريحة.

التوجهات الأوروبية الجديدة تمثل اعترافاً غير مباشر بهذه الحقيقة، حتى وإن لم تُعلنها بهذا الوضوح.

ففي أعقاب سقوط نظام الأسد، اتجه الاتحاد الأوروبي إلى إعادة تقييم المخاطر في سوريا، وهذه المراجعة قامت على فرضية مركزية:

أن الاضطهاد المنهجي انتهى، وأن كثيراً من أسباب اللجوء لم تعد قائمة.

وبناء على ذلك: أُخرجت فئات واسعة من نطاق الحماية التلقائية، ورُبطت الحماية بتهديد مباشر وفردي، حيث جرى التعامل مع "العودة" بوصفها خياراً واقعياً.

غير أن هذا المنطق يفشل تماماً عند تطبيقه على الفلسطينيين، لأن الخطر الذي يواجهونه ليس ظرفياً أو أمنياً فقط، بل بنيوي يتثمل بانعدام الجنسية، غياب الحماية، وغياب أي أفق قانوني مستقر.

الإطار القانوني الأوروبي من الاعتراف إلى الالتزام الفعلي

رغم أن توصيات وكالة الاتحاد الأوروبي للجوء (EUAA) لا تتمتع بقوة الإلزام القانوني المباشر، إلا أنها تكتسب وزناً قانونياً عملياً بوصفها مرجعاً تفسيرياً تعتمد عليه المحاكم الوطنية عند النظر في الطعون، وأساساً لاتخاذ القرار الإداري في دوائر الهجرة، فضلاً عن كونها دليلاً على ما يُعرف قانونياً بـ«المعرفة المسبقة بالمخاطر»، أي أن الدول الأعضاء لا يمكنها الادعاء بجهلها بالوضع الموضوعي للفئات المعنية بالحماية.

ويستند هذا الالتزام إلى منظومة قانونية أوروبية واضحة، في مقدمتها الميثاق الأوروبي للحقوق الأساسية، ولا سيما المادة (18) التي تكفل الحق في اللجوء وفق اتفاقية جنيف لعام 1951، إلى جانب المادة (19) التي تحظر الإعادة القسرية بشكل صريح، كما تعززه المادة (3) من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، التي تحظر المعاملة اللاإنسانية أو المهينة، وهو ما فسّرته المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان مراراً على أنه يشمل منع إعادة أي شخص إلى مكان يواجه فيه خطراً حقيقياً، حتى في غياب تهديد أمني مباشر أو اضطهاد فردي محدد.

في حالة الفلسطيني السوري، تكتسب هذه الالتزامات بعداً خاصاً، إذ لا تتوافر له أي حماية بديلة فعّالة، سواء من دولة أو من وكالة أممية قادرة على أداء دور حمائي.

وعليه، فإن رفض منحه صفة اللاجئ، أو الاكتفاء بحماية مؤقتة وهشة، قد يشكّل خرقاً لمبدأ عدم الإعادة القسرية (لموطنه الأصلي) كما استقر عليه الاجتهاد القضائي الأوروبي، لا سيما عندما يكون الخطر ناتجاً عن فراغ قانوني وبنيوي لا عن ظرف أمني عابر.

ومن هنا، لا يكتمل الاعتراف الأوروبي بأولوية حماية الفلسطينيين السوريين دون تحويل هذا الإقرار إلى سياسة لجوء مستدامة، تشمل إقامات طويلة الأمد لا ترتبط بتقلبات المشهد السياسي في سوريا، وضمان لمّ الشمل الأسري وفق توجيهات الاتحاد الأوروبي ذات الصلة، والمساواة في الحقوق الاجتماعية الأساسية.

أما أي مقاربة تكتفي بالاعتراف النظري دون ترجمة قانونية واضحة، فإنها لا تحل الإشكال، بل تعيد إنتاج حالة هشاشة قانونية جديدة، أقل عنفاً في ظاهرها، لكنها لا تقل خطورة في آثارها بعيدة المدى

حين يُختبر القانون خارج النصوص

ما صدر عن الاتحاد الأوروبي بشأن أولوية حماية الفلسطينيين القادمين من سوريا لا ينبغي قراءته كاستثناء إنساني عابر، ولا كإجراء إداري فرضته ظروف مؤقتة، بل كاختبار فعلي لقدرة المنظومة القانونية الأوروبية على حماية من سقطوا خارج كل التصنيفات التقليدية، فالفلسطيني السوري لم يفقد فقط بيته أو مصدر عيشه، بل خسر الإطار القانوني الذي كان يُفترض أن يحميه، حين انهارت الأطر البديلة التي برّرت استثناءه لعقود.

إن جوهر المسألة لا يكمن في الاعتراف النظري بالحاجة إلى الحماية، بل في مدى استعداد الدول الأوروبية لتحويل هذا الاعتراف إلى التزام قانوني مستدام، لا يتأثر بتقلّبات السياسة أو بتبدّل الخرائط داخل سوريا. فالقانون الدولي للاجئين لم يُصغ ليُدار بالاستثناءات، بل ليحمي من لا حماية لهم، حين تتعطّل كل البدائل الأخرى.

في هذا المعنى، تصبح قضية الفلسطينيين السوريين مرآة أوسع لصدقية النظام الدولي نفسه:

إما أن يُعاد إدماجهم الكامل في منظومة الحماية بوصفهم لاجئين أصحاب حقوق، أو يُتركوا مرة أخرى في منطقة رمادية تُدار إنسانياً وتُفرَّغ قانونياً، والتاريخ أثبت أن اللاجئ الذي يُترك في الفراغ لا يختفي، بل تتراكم أزمته.

أما القانون، فإن قيمته لا تُقاس بما ينصّ عليه، بل بالجرأة على تطبيقه حين يصبح مكلفاً سياسياً.

بوابة اللاجئين الفلسطينيين

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد