لبنان - بوابة اللاجئين الفلسطينيين
مقال: رشا ابراهيم
٦٩ عاماً ومازالت الذاكرة حبلى بذكريات النكبة وحب فلسطين.
إحكيلي إحكيلي عّن بلدي إحكيلي يا نسيم الي مارق عالشجرة مقابيلي عّن بيتي حكاية عّن اهلي حكاية ... لسان حال كل شاب فلسطيني يلتقي بمسنٍ عاش أحداث نكبة عام 48.
تخبرنا الثمانينية مريم العيسى من قرية الخالصة حكاية جاروشتها التي من خلال العمل عليها استطاعت تعليم أبنائها الأيتام.
تحدثنا والدموع في عينيها كأنها هجرت الان من قريتها مشيرة الى (جاروشتها)، هذا كل ما تبقى من بيتي للذكرى.
الحياة في الخالصة قبل النكبة
تصف الحاجة مريم قريتها قبيل طاعون الاحتلال قائلة: "كنا نعيش في الخالصة، زوجي كان يعمل مزارعاً في بستاننا يدعى (الجفتلك)، وكنت قد ورثت عّن أبي ميزاناً للذهب، كانت النّاس تأتي إلينا من الجولان وقرى لبنان لشراء المحاصيل، ووزن الذهب بميزاننا"
عن أحداث النكبة تروى الحاجة مريم مشاهداتها: "بدأنا نسمع بالمجازر في القرى المجاورة والفظائع التي ارتكبتها العصابات الصهيونية ، وعندما كثر الخُرَّاف (الكلام) عّن إقتراب اليهود من قريتنا، فقرر زوجي الخروج إلى لبنان ولكن أصر قبل الرحيل إتمام زراعة فسلات التفاح أملاً ان يجدها قد نمت قليلاً بعد أن يرجع. "
تتابع: "خرجت انا وزوجي وخمسة اطفال وكنت حاملا في شهري السادس برفقة امي وحماتي العاجزة "
"تركت ورائي كل شيء سعري بسعر (مثل ) ٥٠٠ الف فلسطيني معتقدين اننا سنعود في حزيران، دشرت (تركت) وراي فرشات الصوف وتنكات الزيت وصندوق حديدي دفنته تحت شجرة الخوخ فيه مصاغي وأربعين ليرة ذهب مهري وتركت خزن مليانة شراش(ملابس ) وطلعنا بالاواعي يلي علينا حتى في نسوان (نساء) نسيوا أطفالهن من شدة الرعب الذي ملىء قلوب قرى صفد خوفاً من هتك الاعراض والتعذيب".
اللجوء إلى لبنان
"ماطلعنا من بيوتنا غير لنحافظ على أعراضنا"
تواصل الحاجة مريم سر قصتها: "عندما وصلنا الى مرجعيون تذكرت اني قد نسيت (الجاروشة) فعدت مسرعة الى الخالصة لإحضارها حتى أستطيع تحضير الطعام لأبنائي.
أكملنا بعدها الى دير ميماس، كانت حرارة الشمس عالية فتوفيت والدتي ودفنت هناك
سمعنا بعدها أن الوكالة (الأونروا) تعطي خياماً في عين الحلوة فتوجهت وعائلتي الى هناك وكنت مع أوائل من سكنوا فيه حيث عمل زوجي معهم في نصب الخيم مقابل الحصول على رطل من الطحين ، لم يتحمل زوجي معاناة النكبة توفي بسكتة قلبية وهو يردد: الموت مر والشرادة فضيحة. "
استدركت الكلام وهي تمسح الدموع عن تجاعيد وجهها الذي ارتسم عليه بقايا وطن وحسرة كبيرة: "استبدلت الخيام ببيوت من حجر والله ما طلعنا من دورنا الا بس لنحافظ على أعراضنا مش خوف من الموت ولا أنا شو بدي بهاض(هذا) البيت شو بيجي قدام بيتي بفلسطين، بعد وفاة زوجي تركني مع ستة ايتام -أصغرهم طفلة مازالت ترضع ووالدته دون معيل، فاستثمرت الجاروشة لتحصيل رزق أبنائي، كنت اقوم بتأجيرها للنسوة لصنع المونة البلدية حيث يحولن السميد المنقوع باللبن الى كشك بعد طحنه على جاروشتي كما كنّ يطحنَّ الحبوب والسماق".
الجاورشة ملتقى اللاجئات لبثّ شجونهن
تخبرنا الحاجة مريم عيسى كيف كانت النساء ينتظرن أدوارهن، وهن يغنين يا ظريف الطول وقف تقولك رايح عالغربة وبلادك احسنلك فيغطي صوت نواح النساء على صوت هدير المطحنة ويمتزج الطحين بالدموع .
وتخبرنا أيضاً كيف استطاعت تعليم أبنائها في الولايات المتحدة بفضل الأجر الذي كنت تتقاضاه من هؤلاء النسوة، لتتحول الجاروشة إلى رمز في ذاكرة أحفادها وأبنائهم الذين يتشاجرون من أجل الاحتفاظ بها: " بيتخانقوا عليها مين بدو يورثها بعد موتي وهذا يدل أن صغارنا لم ولن ينسوا فلسطين بعد موتنا."
صحيحٌ ما تقول الحاجة مريم ففي كل عام يحي الفلسطينون ذكرى النكبة، ويستذكرون ما حل بهم من شتات ومآسي لتبقى الذاكرة غضة طرية بحب فلسطين.
يريدون أرضنا فارغة منا، من نرجسنا، من زيتوننا، من لغتنا، من حلم العودة، يريدوننا شعباً بلا هوية وبلا أرض وبلا ملامح وبلا وطن، لكن تثبت الأجيال المتلاحقة أنها ما تزال متمسكةً أكثر وأكثر بحقها في فلسطينها رغم أنها لم تراها يوماً.