تامر خرمه
على بعد خمسة كيلومترات من الآثار الرومانيّة الشهيرة، في مدينة جرش التاريخيّة، بقعة بؤس عرفها الناس باسم مخيّم غزّة أو مخيّم جرش، الذي يُعد سكّانه لاجئين من الدرجة الثانية -أو ربّما العاشرة- حيث يعانون أضعاف ما يُعانيه أخوتهم من اللاجئين الفلسطينيّين في الأردن. كلّ ذنبهم أنّهم لجأوا إلى غزّة في العام 1948، قبل أن ينزحوا في العام 1967 من هذه المدينة، التي يُحاصرها القهر.
يُعاني أكثر من (24) ألف لاجئ مسجّل لدى "الأونروا" في مخيّم غزة أفظع مغبّات الفقر، بالإضافة إلى اكتظاظ سكّانيّ خانق، إذ تتكدّس في زقاق هذا المكان المنسيّ منازل لا تصلح غالبيّتها العظمى للسكن، والأمم المتّحدة تؤكّد أنّ كلّ (3) منازل من بين (4) لا تُتيح أوضاعها البنيويّة أيّة إمكانيّة للعيش اللائق، علماً بأنّ القانون الأردني لا يُتيح لهم امتلاك العقارات، وعلى الرغم من شكوى اللاجئين المستمرة منذ سنوات، إلّا أنّ الجهات المعنيّة كلجنة تحسين المخيّم و"الأونروا" لا تزال تتجاهلهم.
الحرمان من العمل كان جزء من الثمن الذي دفعه أهالي مخيّم غزّة نتيجة إرغامهم على النزوح خلال حرب الأيّام الستّة، فلا تزال السلطات الأردنية تُصرّ على التعامل معهم كعمالة مهاجرة، ما يستوجب إصدار تصاريح عمل كغيرهم من العمّال الوافدين من دول الجوار، وإغلاق معظم المهن أمامهم، رغم غياب إمكانيّة عودتهم إلى الوطن على الأقل في الوقت الحالي، على العكس من حال نظرائهم من عمّال الدول الأخرى.
لا يمكن لابن المخيّم العمل في معظم القطاعات، فالقطاع العام مغلق بالكامل أمامه، وكذلك الأمر بالنسبة للمهن الأخرى، حتّى إصدار رخصة قيادة عموميّة مسألة غير متاحة أمام هؤلاء اللاجئين.
وبالتالي، باتت البطالة هي الموت اليوميّ الذي يفترس سكّان المخيّم. توفير مسكن لائق ليس بالأمر اليسير، عندما تكون محروماً حتّى من حقّك بالعمل، فالسلطات الأردنيّة المُوقّعة على المواثيق الدولية تستثني اللاجئين في مخيم غزة من حقهم في العمل على الرغم من أنه ضمن الحقوق الأساسية لأي إنسان.
ومن حظي بفرصة عمل من سكان المخيّم، لا يكاد يجني ما يُمكّنه من توفير أبسط متطلّبات العيش الكريم. وحسب أكاديمية دراسات اللاجئين فإنّ (64) بالمائة من اللاجئين في المخيّم يعيشون تحت خطّ الفقر المدقع، في ظلّ استمرار ارتفاع أسعار السلع الأساسيّة، واستعارها إلى ما يفوق طاقة حتّى ميسوري الحال من سكّان الأردن.
يتشدّق البعض بشعار "مناهضة التوطين"، لتبرير الموقف الرسمي الأردني تجاه أهالي مخيّم غزة. ولكن التساؤل الذي يفرض نفسه بقوّة، كيف يمكن لمنح هؤلاء الناس حقوقهم المدنيّة أن يدخل في دائرة التوطين، في الوقت الذي منحت فيه السلطات الأردنيّة الجنسيّة لمعظم الفلسطينيّين المقيمين في البلاد، وبعض المقيمين خارجها، بمن فيهم أعضاء في السلطة الفلسطينيّة؟!
ولا تقف معاناة أهالي مخيّم غزة عند حدود الفقر والبطالة، بل تصل إلى حرمانهم من العلاج في المستشفيات الأردنيّة، في ظلّ تراجع المساعدات التي تقدّمها "الأونروا"، ومن ضمنها المساعدات المتعلّقة بقطاع الصحّة، بالإضافة إلى إلزامهم دفع رسوم وثمن كتب أبنائهم المدرسيّة.
أوصل ذلك الأهالي لمرحلة اعتبروا فيها التعليم ليس أولوية، فلماذا ترسل أبنائك للمدارس وأنت تعلم استحالة إتمام تعليمه الجامعي، حيث لا يتاح أمامه التقدّم للمنافسة على مقاعد الجامعات كغيره من حاملي الجنسيّة الأردنيّة. وحتّى إن تمكّنت من إرساله إلى جامعة خاصّة تدبّرت نفقاتها، فما جدوى شهادته التي لا تسمح له بالانخراط في سوق العمل؟
وبذكر المدارس، هناك ما يُسميه سكّان مخيّم غزّة بالصفوف الطيّارة، إذ لا تتوفّر مساحات كافية في مدارس "الأونروا"، فيضطرّ عدد كبير من الطلبة -الذين لا تتوفّر لهم غرفاً صفّيّة- إلى التنقّل بين غرفة وأخرى، أو الانتقال أحياناً إلى الساحة لتلقّي دروسهم.
السلطة الفلسطينيّة وما تبقّى من منظّمة التحرير، هما أبعد ما يكون للاستجابة لشكاوى أهالي المخيّم، وهكذا تستمرّ المعاناة بين إهمال السلطات الأردنيّة، وتخلّي نظيرتها الفلسطينيّة عن أبسط مسؤوليّاتها.
إن كانت السلطات الأردنيّة تفرض كل هذه العقبات أمام أهالي مخيّم غزة وتحرمهم من العيش الكريم، والسلطة الفلسطينية وما تبقّى من منظمة التحرير أبعد ما يكون عن الاستجابة لشكاوى أهالي المخيّم، لماذا لم يتركوا جميعهم المجال للاجئين لمحاولة تحمّل مسؤولية أنفسهم وتدبّر أمور عيشهم كإنشاء جمعيّات تعاونيّة أو إقامة مشاريع تجارية خارج المخيّم؟ تخيّلوا أنّ حتى هذه الحلول ليست مُتاحة أمامهم، إذ لا يسمح القانون الأردني لهم بذلك باعتبارهم لا يحملون الجنسيّة الأردنيّة، كما لا يُتيح لهم الحصول على سجل تجاري.
وبالنتيجة، لا يوجد من يتحمّل مسؤوليّته تجاه هذا المخيّم، ولا من يرغب بتقديم يد الغوث لأهله، في ذات الوقت الذي يُحرم سكّانه من تحمّل هذه المسؤوليّة وتدبّر أمورهم المعيشيّة.