لبنان - بوابة اللاجئين الفلسطينيين
"حلفنا ما عاد ناكل زعتر بعمرنا"، جملة رددها أهالي المخيّم عند خروجهم منه، وفق ما قالت الحاجة أم علي عراقي، إحدى الناجيات من مجزرة مخيّم تل الزعتر قبل 41 عاماً.
جملة تكثّف ألم مُصابٍ، كاد بلحظته أن يُنفّر الفلسطينيّ من عبقه الزعتري، فهو إبن الزعتر والزيتون والميرمية، التي لم يقدّر الفاشيون الذين تربّصوا بهذا الشعب في تل الزعتر، معنى أن يكون إبن أرض الزعتر الفلسطينية، بينهم وعلى أرضهم، لكنّ الزعتر الأصيل لا يخرج من خضرته الدائمة رغم وقع المصاب.
الحاجة أم علي، وهي من مواليد فلسطين عام 1940، أتيح لها أن تنجو من المجزرة مع آخر دفعة خرجت من المدنيين، كان لها من الحظوظ الكثير حتّى وصلت إلى شاحنات الصليب الأحمر، التي جاءت لتخرج المدنيين من المخيّم ظهر 12 آب 1976.
الحاجة أم علي التي تسكن مخيّم مارالياس في العاصمة اللبنانية بيروت، عايشت مآسي حصار تل الزعتر والمجزرة، وبالكثير من الإيماءات على وجهها، عوّضت بها تلعثم التعبير،"الناس شافوا الموت بعيونهم" تقول الحاجة، وتسترسل في سرد بسيط ومختصر لما جرى.
"إثنان وخمسون يوماً من الحصار مضت، انقطعت خلالها المواد الغذائية، والمياه والكهرباء، كنا نأكل العدس" وفق ماعايشت الحاجة وروت، ليساق الأهالي بعد الحصار إلى الذبح، بعد أن تمّ إيهامهم بالهدنة وإعطاءهم الأمان.
فبعد أسابيع من فرض الحصار من قبل الميليشيات اليمينية اللبنانية، جرى إيهام أبناء المخيّم المدنيين، بمغادرة آمنة تنتظرهم عبر حافلات الصليب الأحمر، وبأن تلك الحافلات تنتظرهم عند الجامع، لكن المفاجأة كانت لدى وصولهم إلى المكان المذكور، حيث رأوا هناك مذبحة وجثث مكدّسة، وفق مشاهدات الحاجة أم علي، التي وإن تلعثمت ذاكرتها الصوريّة بدفع من رغبتها بالنسيان، فإنّها لم تنسى إطلاقاً رائحة الدم التي كانت فائحة في المكان، وفق ماقالت الحاجة لـ" بوابة اللاجئين الفلسطينيين".
تشتت أهالي تل الزعتر على طول إمتداد جغرافية الشتات الفلسطيني بلبنان، فمن مخيمات بيروت ومقبرة شهدائها التي احتضنت النصب التذكاري لشهداء المجزرة إلى مخيمات شمال لبنان، تبقى الذاكرة عصية على الانكسار والجرح ينزف رغم محاولات محو المكان (المخيم) ومسح تفاصيل الجريمة.
هنا في حي تل الزعتر بمخيم البداوي، يكاد يتحول الحي إلى مخيّم صغير تنمو على جدرانه صور شهداء المجزرة والمفقودين، وأيام الحصار القاسي الذي عايشه الأهالي، أبو سهيل كروم، الذي يسكن في حي تل الزعتر يستطرد بتذكر تفاصيل تلك الأيام فيقول: "كنت من الفدائيين الذين دافعوا بكل ما فيهم عن المخيّم، أصبت بكتفي مرتين ولا يوجد من يسعفني لعدم قدرة الأطباء على الدخول فكنت أقوم بوضع الماء والملح فقط على الجرح وتمضيده".
ويضيف كروم "زوجتي أيضا أصيبت ولم نستطع حتى الآن معالجتها، فالنساء كنت أراهم يدافعون ويقاتلون من أجل المخيم، لذا هو مخيم الصمود ".
يتابع بحرقة في عينيه، تستعيد ببرقيها تفاصيل تمر بها الذاكرة سريعاً على منزله في المخيّم وبأسى يقول: "لقد تركت مكتبة ثمينة وفيها العديد من المجلات وإعداد من الجرائد من عام 1936، وروايات أدبية عن فلسطين، وكلها ذهبت مع تل الزعتر وحرقت قلبي"
يبدو من حكايا أهالي المخيم أن تاريخاً طويلا من الفقد و الخسائر المتراكمة المادية والمعنوية أثقل أرواحهم رغم مرور 41 عاماً على المجزرة، فالذاكرة تستعصي على نسيان تفاصيل الحياة بالمخيم، بداية من الأماكن والصور والناس، وحتى مقتينات المنزل والأغراض الشخصية التي أرغم الأهالي على تركها خلفهم تحت ركام المخيم.
و في مخيم نهرالبارد الشمالي إلتقت بوابة اللاجئين في حي المهجرين، الحي الذي سكنه أهالي مخيم تل الزعتر بعد نزوحهم، حسين عيادي، الذي غادر تل الزعتر وهو يبلغ من العمر 30 عاماً.
بدأ الرجل السبعيني الذي نجى من الموت خلال محاولات الخروج لبيروت الغربية أنذاك يسترسل ويحدثنا : " لقد تركت زوجتي وأولادي في ملجأ ورحت أبحث عن طعام وشراب لهم بعد أن أنهكنا الحصار ونفذت المؤون، عدت إلى الملجأ ولم أجد أحد منهم.
بعد ما قررت الخروج من المخيم وأنا في طريقي إلى بيروت الغربية، رأيت رجل مشلولا، تنادي زوجته عليّ أن أساعدها وتبكي ،حملته على ظهري أكثر من ثلاثة ساعات وكانت صحته مليئة وانا كنت نحيل الجسم، حتى بدأت ميليشيات الكتائب تقصف عشوائيا على المارين في الطريق، لا أعلم كيف كنت أسرع وأركض وأنا مثقل به، وزوجته ورائي، وعقلي مشغولا على زوجتي وأولادي الضائعين.
" جاءت هذه الميليشيات بدأت تفتش الناس وتنظر إلى هوياتهم وبطاقاتهم، قامت بصف كل الفلسطينيين صفاً متساوياً على أعلى الجسر ،وأطلقت النار عليهم طلقات متتالية، وحين رأى الضابط وثيقتي بصق عليها وليس بالإمكان فعل شيء".