بيروت - بوابة اللاجئين الفلسطينيين
تحلّ مناسبة اليوم العالمي للمفقودين، أو ضحايا الاختفاء القسري، في 30 من آب، ولايزال الإخفاء القسري إحدى أدوات الاخضاع والقمع والترهيب التي تُمارس على البشر بمعظم مساحة هذا العالم، ويترّكز استخدام هذه الأداة الوحشيّة في مناطق النزاعات، وعلى الشعوب الأكثر ضعفاً والفاقدة للحماية.
اللاجئون الفلسطينيون في مخيّماتهم في الشتات، نالوا نصيباً كبيراً من وحشيّة هذه الأداة، فواقع التشتت وفقدان الوطن والحماية، جعل منهم حلقة ضعيفة تستفرد بها مختلف القوى المناهضة لقضيّتهم، وفي مقدمة تلك القوى العدو الصهيوني، الذي دأب على إنهاء الشتات الفلسطيني، للتخلّص من كل ما يمثّله ذلك الشتات من روح فلسطينّة حيّة تنزع للتحرير والعودة، ما جعل من مسألة إنهاء الشتات بالنسبة للعدو مسألة وجودية، وغاية من أولى الغايات، صبّت في مصبّها ممارسات قوى مختلفة، منها أنظمة عربية وأقليمية، ومنظّمات محليّة في دول الشتات، مارست على المخيّمات الفلسطينية أبشع الجرائم، ومنها جرائم الإخفاء القسري.
من لبنان إلى سوريا .. مفقودون أيتام
خلّفت الحرب الأهليّة اللبنانية التي انتهت عام 1990، ويلات كثيرة نال اللاجئون الفلسطينيون منها نصيباً كبيراً، فمخيّماتهم تعرّضت لمجازر كثيرة وأحداث حصار وقتل واختطاف، فمن تل الزعتر إلى صبرا وشاتيلا وحرب المخيّمات، مرّ الوجع وترك أثره حتّى يومنا هذا، ولعلّ الألم الذي لا يُنسى مع الزمن هو ألم الإختفاء القسري، فآلاف العائلات الفلسطينيّة في لبنان فقدت أحد أبنائها، دون معرفة مصيرهم، فحالة اللاحيّ وألاّ شهيد، هي الأقسى من بين كل المآسي كما يجمع ذوو المفقودين الفلسطينيين.
تقول بعض التقديرات، أنّ أعداد اللاجئين الفلسطينيين الذين فقدوا إثر الحرب الأهليّة اللبنانية، تتجاوز الأربعة آلاف مفقود، تقديراتٌ معظمها تعود لمراقبين ولا إحصاءات توثيقيّة رسميّة تؤكّدها، ولم تلعب الجهات الفلسطينية الرسميّة "منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية" أيّ دور يذكر إن كان في توثيق الأعداد أو المطالبة في الكشف عن مصيرهم، بل ترفّعت المنظمّة عن فتح هذا الملف بشكل متعمّد، لاإعتبارات سياسيّة تخصّ مرحلة "المسامحة" والتي كرّسها ما عُرف بـ"إعلان فلسطين في لبنان" الذي أطلقه عبّاس زكي سفير السلطة الفلسطينية في لبنان عام 2008، في ذكرى انطلاقة حركة " فتح" آنذاك.
"إعلان فلسطين في لبنان" جاء بمثابة إعتذار أحادي بإسم الفلسطينيين للبنان، وطيّ من قبل منظمة التحرير لجميع الملفات المتعلقّة بالضحايا والمفقودين الفلسطينيين، وكذلك ملفات المحاسبة والتعويضات، بدعوى "عدم نكء الماضي وخسارة جميع الأصحاب" وفق تعليق لإدوار كتورة، مسؤول دائرة المؤسسات الأهلية في سفارة فلسطين في بيروت، أدلى به لإحدى الصحف اللبنانية عام 2009.
ورغم هذا الذي يعتبره كثيرون، إخفاءً قسريّاً لملف المفقودين الفلسطينيين في لبنان، لا يزال الأهالي يستذكرون مفقوديهم، إن كانوا أحياءً أم أموات، فعائلات كثيرة نجت من مجازر تل الزعتر وحرب المخيّمات، وقد نقص من أفرادها شخصاً أو إثنين، لا يزال يجول في خاطرهم أن يُعاد فتح الملف لمعرفة مصير أبنائهم، فإن كانوا قد استشهدوا، فمن حقّهم تشييد قبور لهم، وإن كانوا لا يزالون أحياءً فأين يقبعون إلى الآن؟.
تتكرر مأساة الفلسطينيين مع الفقد أو الإخفاء القسري، في سوريا، فمنذ أن بدأت الأحداث السوريّة عام 2011، وطال لهيبها مخيّمات الشتات هناك، غُيّب بشكلٍ قسريّ آلاف الفلسطينيين، وثّقت بعض الجهات الصحفيّة والتوثيقيّة اعتقال المئات منهم في سجون النظام السوري، حيث بلغ الرقم وفق "مجموعة العمل لأجل فلسطينيي سوريا" أكثر من 1630 معتقلاً بينهم 103 إمرأة، بينما تشير تقديرات إلى أرقام تفوق هذا العدد، لأشخاص فقدوا ولم يعلم عن مصيرهم أيّ شيء.
فوفق إقتباس حرفي من مادّة توثيقيّة نشرها الكاتب والباحث الفلسطيني علي هويدي عام 2015، يقول: "حسب إحصاء وكالة الأونروا في 1/7/2014 وهو الإحصاء الأحدث فإن عدد اللاجئين الفلسطينيين المسجلين في سوريا قد وصل إلى 564,074 لاجئ، وتشير الأونروا بأن عدد المهجرين من الفلسطينيين داخل سوريا قد وصل إلى 270 ألف مهجر موزعين في مناطق مختلفة في دمشق واللاذقية وحماه وحلب وغيرها، أما المهجرون خارج سوريا حسب الأونروا أيضاً هناك حوالي 70 ألف (لبنان 51 ألف، والأردن 10 آلاف، ومصر 6 آلاف، وغزة ألف، و1100 في ليبيا) وأعداد أخرى في تايلند وماليزيا وإندونيسيا.. ووجود حوالي 30 ألف لاجئ مهجر في دول الإتحاد الأوروبي لا سيما السويد (16 ألف)، وفي تركيا يوجد حوالي الأربعة آلاف، وتشير بعض التقديرات إلى وجود أعداد متناثرة من المهجرين في مقدونيا وبولندا وقبرص واليونان والبانيا وغيرها من الدول، بمعنى أنّ عدد إجمالي المهجرين من اللاجئين الفلسطينيين داخل وخارج سوريا وصل إلى حوالي 375 ألف، ولو افترضنا أنه في الحد الأقصى لا زال يعيش في المخيمات داخل سوريا حوالي 75 ألف، ليصبح الإجمالي المعروف إلى حوالي 453 ألف، وبالتالي ماذا عن مصير الآلاف من اللاجئين الفلسطينيين المسجلين في سجلات وكالة الأونروا؟" انتهى الاقتباس.
التساؤل الوارد في الاقتباس أعلاه، لا بد أن يستفزّ الأذهان، حول مصير اللاجئين الفلسطينيين المفقوين في سوريا، ونضيف إلى ذلك أنّ من يُعتقل في سجون النظام السوري أو لدى أي طرف من الأطراف المتصارعة في سوريا، ينطبق عليه أيضاً مفهوم "المختطف أو المختفي قسراً" وإن عُلم أنّه معتقلاً وعُرفت الجهة التي اعتقله، وذلك لعدم سريان القوانين الدوليّة ذات الصلة بحقوق المعتقلين على من يعتقلهم النظام السوري أو الأطراف المسلّحة الأخرى، كالحق "في الاتصال بالعالم الخارجيّ، والحق في تبليغ الأسرة بالمكان الذي تمّ نقله إليه، والحقّ في الاتصال وتوفير زيارة الأسرة، وأن يكون قريباً منها".
فغالبيّة المعتقلين الفلسطينيين الذين تمّ توثيق اعتقالهم في سوريا، تغيب أخبارهم عن أسرهم وحتّى تغيب ظروف اعتقالهم، وتُجهل التهم الموّجهة إليهم، ما يجعلهم وفق القانون الدولي، في عداد المفقودين والمغيّبين قسراً.
فمن هنا، تسود مخاوف كبيرة لدى أهالي المفقودين الفلسطينيين في سوريا على مصير أبناءهم، وتتملك معظم اللاجئين الفلسطينيين مخاوف من طي ملفّ أبنائهم كما طوي ملف المفقودين الفلسطينيين في لبنان، فاللاجئ الفلسطيني بات يتيماً وفق ما يشعر به معظمهم ويعبّرون عنه صراحة، فلا السلطة ولا فصائل منظّمة التحرير تلعب دوراً جديّاً في السؤال عن مصير أبناءهم، وبات للسياسة اعتباراً أعلى من أي شيء آخر، حتّى لو كان مصير شعب مشتت في مخيّمات لجوء.