الأردن - بوابة اللاجئين الفلسطينيين

أسماء عوّاد

لا يمكننا اعتبار أي مخيم من المخيمات الفلسطينية ساحة معزولة عن محيطها الاجتماعي، فبالرغم من تشابه العناوين الرئيسية للصعوبات والمعاناة التي تحيط بأوضاع سكان المُخيّمات الفلسطينية في ساحات الشتات، إلا أنّه يبقى لكل منها تمايُزها وتأثّرها وتأثيرها عليه، وذلك احتكامًا للبلد المُستضيف وطبيعة علاقاته المباشرة وغير المباشرة مع العدو الصهيوني ومن هم حلفاؤه الإقليمين والدوليين وعليه إذا أردنا تناول أي قضية متعلقّة بالمخيّمات فلزام علينا أن نعرف واقعها الموضوعي وظرفها التاريخي لتكوين صورة دقيقة.

منذ إنشاء المُخيّمات في الأردن، قدّمت وكالة "الأونروا" الخدمات للاجئين والنازحين كجهة رئيسية دولية، وشملت خدماتها: التموين، التعليم، الصحة، الحماية، الإغاثة والخدمات الاجتماعية، البنية التحتيّة وتحسين المُخيّمات، القروض الصغيرة وأخيراً حالات الطوارئ.

قد تبدو هذه البرامج مناسبة، ولكنها في الحقيقة بالكاد سدّت الاحتياجات الأساسية لمئات الآلاف، عدا عن تراجعها تدريجياً لاعتبارات سياسية ضمنيّة، كما تأثرت برامج "الأونروا" بالتطورات التي شهدتها الساحة العربية ودول الطوق خصوصاً، حيث كان من المُفترض أن يكون وضع سكان المُخيّمات مؤقت، ومع مرور ما يقارب السبعين عاماً على النكبة تراجعت خدمات "الأونروا" إلى حدها الادنى، أما حل مشكلة اللاجئين يراوح مكانه بل ويتجه لحلول تصفوية وتوطينيّة.

بالرغم من الظروف القاسية في مخيّمات اللجوء والنزوح إلّا أنّ بواكير العمل الوطني الفلسطيني إنطلقت منها، والذي أكسبها بدوره القوة، خصوصاً في موضوع حق العودة وعدم السماح بتذويب الهوية الفلسطينية وسقوطها بالتقادم.

قرار ضم الضفتين تحت مُسمّى "المملكة الأردنية الهاشمية" عام 1950، أحدث شرخاً في تعريف "من هو الفلسطيني" أمام المجتمع الدولي، حيث أصبح هناك دولة ذات سيادة واعتراف دولي ضمّت جزء لها وأصبح قاطنو هذا الكيان الجديد يُسمّون أردنيين وتنامت مشكلة جديدة فيما يتعلق بتثبيت الهوية الفلسطينية للمُقيمين في حدود المملكة، لم يتم حلّها حتى بعد فك الارتباط مع الضفة الغربية، فقد أصبح سكان المخيّمات في الأردن يحملون وثائق أردنية وبالتالي هم مواطنون أردنيون. لكن استُثني من ذلك أبناء مخيم جرش (غزة) الذين يُعانون حتى اليوم بسبب حرمانهم من حقوق المواطنة في الأردن ورفض الجهات الرسميّة الأردنية لمعاملتهم أسوة بباقي أبناء المخيّمات الأخرى ولما لذلك من تبعات تتمثّل في التضييق عليهم في العمل والتعليم والتملك والطبابة...إلخ.

لم تكن الدولة الأردنية وأجهزتها الأمنيّة لديها قبول للعمل الوطني في المخيّمات بل كانت شرسة في قمعه، ومع إعلان الأحكام العرفيّة في الأردن عام 1956، كانت سمة العمل الحزبي والفصائلي سريّة، حيث عملت كوادر التنظيمات الفلسطينية تحت عباءة الجمعيّات والنوادي والاتحادات وهيئات الإغاثة ولجان تحسين المخيّم والنقابات...الخ التي كانت موجودة في المخيّمات، وتحتك بشكل مباشر مع سكانها، إضافةً لتشكّل العمل المقاوم المسلح ضد العدو الصهيوني (كانت هذه الفترة تتسم بالعلنيّة للفصائل المسلحة). شهدت تلك الفترة مد وطني ذو أثر إيجابي على صمود اللاجئين، وازدهار للعمل الحزبي، وتشكلت حاضنة شعبيّة للفصائل، لكن سرعان ما تأثّر وجود الفصائل تبعاً لأحداث عديدة كانت بدايتها الصدام مع النظام الأردني في أحداث أيلول الدامية عام 1970، وخروج المقاومة الفلسطينية المسلحة، مع استمرار عمل الفصائل السري غير المسلح، إلى أن جاءت المحطة الثانية التي أثرت في سير العمل الوطني داخل المخيّمات وهي ما يُسمّى مرحلة "الانفراج الديمقراطي" عام 1989 بعد عامين من اندلاع انتفاضة أطفال الحجارة.

كانت لهذه المحطة أثر بالغ لما سببته من التباس عند كوادر الأحزاب التي أصبحت علنيّة وتُمارس نشاطها من خلال أحزاب مرخّصة وفق الدستور والقوانين الأردنية، وهذه تجربة جديدة تحتاج لفترة من أجل تغيير آليات العمل وترتيب الأوضاع وفقًا للمعطيات الجديدة، تشكّلت على أثرها لجان العمل الوطني في المخيّمات التي تُرجمت لاحقاً لتحالف القوى الوطنية في المخيّمات (والذي بدأ تراجع عمله من العام 2003 وانقسم تماماً خلال فترة الربيع العربي وخصوصاً مع الأزمة السورية).

إضافة لذلك ترتب على مرحلة العمل العلني تركيز جهود الكوادر الحزبية في أحزابها والعمل من خلالها بدلاً من العمل من خلال الهيئات التي اعتادوا العمل تحت عباءتها بشكل سري، هذه الهيئات التي كانت ظاهرياً معنيّة في القضايا المطلبية والحقوقية ولكنها في جوهر الأمر كانت محركات للعمل الوطني، لذلك كان لخروج الحزبيين منها من أجل ممارسة العمل السياسي من خلال القنوات الحزبية المرخصة بالغ الأثر على دور هذه الهيئات التي تراجع العمل فيها حتى بات معزولاً عن السياسة، وتحوّلت من هيئات لها تأثير سياسي وتعبوي، إلى مجرد جهات خدميّة إنتقائية، تُشرف عليها الدولة ومنظمات المجتمع المدني وفي أحسن الأحوال لا تساهم في تعزيز الثقافة الوطنية كما كانت من قبل. في الوقت ذاته عجزت الأحزاب بصيغتها الجديدة عن تغطية هذا الانكشاف في ظهر جسم العمل الوطني بشكل سريع ما فاقم المشكلة وألقى بظلالها على سكان المخيّمات أنفسهم من يُعانون من ظروف اقتصادية صعبة، وهم ذاتهم رفضوا أيضاً صيغة العمل الجديدة للفصائل الفلسطينية ما أضعف التفاف الجماهير حول الأحزاب الأردنية الوليدة والعمل السياسي بشكل عام.

الفراغ الذي أحدثه خروج الفصائل من الهيئات الاجتماعية والحقوقية في المخيّمات، أعطى الفرصة لتغلغل جهات جديدة معنيّة بمشاريع أخرى في الدخول لها من باب حقوقي ومطلبي من جهة، ومن باب بناء قاعدة للعمل الإسلاموي من جهةٍ أخرى، هذا كله ساهم في حرف الوعي الوطني وتراجعه، فيما كانت التحضيرات تسير على قدمٍ وساق لتوقيع "اتفاقية أوسلو" وإجهاض الانتفاضة. الفترة الأسوأ كانت حين تم توقيع الاتفاقية والخلافات الفصائلية التي برزت داخل المخيّمات بين مؤيد ومعارض، علماً بأنّ التيارات التي أيدت الاتفاقية تقاطعت في مصالحها مع النظام الأردني الذي وقّع "معاهدة وادي عربة" مع العدو الصهيوني بعد ذلك بعام.

تغيّر شكل العمل ورموزه وأفقه في المخيّمات، من رافعة للعمل الوطني إلى مصالح وولاءات ضيّقة وامتيازات منحتها الدولة الأردنية لمن يُشاركها في نفس النهج وبالتالي تراجع دور لجان تحسين المخيّم والنوادي والجمعيّات الخيرية والتعاونية والاتحادات، وتحولت هذه الجهات من القيام بدورها التربوي والطليعي في تثبيت حق العودة والتمسك بكامل حقوق الشعب الفلسطيني إلى مجرد هيئات إما الدولة بسياساتها التطبيعية تُحكم قبضتها عليها، أو أسرى للتمويل الأجنبي المشروط، أو مُحتكمة للهيئات المنبثقة عن جماعة الإخوان المسلمين، كل ذلك وسط تراجع خدمات "الأونروا" التي أصبحت ترى أنّ أبناء المخيّمات مواطنون أردنيّون وعلى الدولة الأردنيّة القيام بكامل الواجبات اتجاههم وهذا ما ترفضه الجهات الرسمية، هذه الرؤية لـ "الأونروا" لم تكن إلا انعكاس لتراجع دعم المموّلين الدوليين لتصفية القضية الفلسطينية بإنهاء موضوع اللاجئين على قاعدة توطينهم.

في بداية التسعينات مع إنهيار الاتحاد السوفيتي وتراجع تأثيره وصعود تيارات الإسلام السياسي، لعبت جمعيّات تحفيظ القرآن ولجان الزكاة التابعة لجماعة الإخوان المسلمين دوراً في حشد مناصرين للجماعة من خلال تقديم مساعدات عينيّة ومادية وتوفير دعم للتعليم الجامعي وإيجاد وظائف في ظل وضع اقتصادي سيء في الأردن نتيجة أزمة اقتصادية رافقت توجّهات حكوميّة نحو الإعتماد على المساعدات والقروض في ظل تراجع المشاريع التنمويّة، وإنعكاس ذلك على صعيد الأفراد بتكريس نهج الاقتراض الشخصي من مؤسسات التمويل الصغيرة والبنوك ومنظمات المجتمع المدني. هذا الوضع فرض نفسه داخل المخيّمات وخارجها ما زاد نسبة الفقر والبطالة في الأردن، وفي المخيّمات بشكلٍ خاص.

في ظل الظروف محلية صعبة كان من الطبيعي توجّه الناس للمنفس الاقتصادي المُتمثّل بأدوات جماعة الإخوان في المخيّمات، ويجدر القول إن هناك تباين لأثر جماعة الإخوان المسلمين وقوتهم، علماً بأنّ بعض مُمثلي الفصائل في الأردن الموالين لسلطة رام الله والمُتقاطعين في مصالحهم مع النظام الأردني، أيضاً كانوا بحاجة لقاعدة شعبيّة واستخدموا نفس الورقة الاقتصادية في تحقيق ذلك عبر إعطاء مساعدات وامتيازات انتقائية. 

امتدت هذه الحقبة إلى أن بدأت التحركات في الساحات العربية وانقسم الشارع الأردني بشكلٍ واضح في الموضوع السوري ما بين مؤيد للثورة ومُعارض لها، وبدأ فصل جديد في المخيّمات مع تدفق اللاجئين السوريين الذين لم يُقيموا فقط في المخيّمات البعيدة التي أقامها النظام الأردني لهم. عدد كبير من السوريين قصد المخيّمات الفلسطينية لانخفاض إيجارات البيوت فيها وتواجدها في مناطق حيوية في المدن الرئيسة (عمّان، الزرقاء، اربد).

رافق الهجرة الجديدة، نمط جديد أيضاً من منظمات المجتمع المدني بمشاريعها المموّلة والتي تستهدف دمج السوريين في المجتمعات المحلية وتقديم خدمات إغاثة وطبابة ورعاية نفسية وإعادة تأهيل. هذه المشاريع تغلغلت في قلب المخيّمات والمدن على حد سواء ووفّرت فرص عمل لمئات الشباب ما أعطاها قبول وترحيب، خصوصاً أنها مشاريع إنسانية وتتجنّب بشكلٍ قاطع الدخول في السياسة، ودمجت هذه المشاريع اللاجئين الفلسطينيين في معيّة اللاجئين السوريين. برامج عديدة بدون روح وطنيّة، مجرد خدمات حتى لا تؤسس لثقافة العودة، فقط ترويج لفكرة الخلاص الفردي لدى العاملين في هذه المشاريع والمُستفيدين منها، حتى أنّ الوظائف التي توفرها هذه المنظمات لا تعود بالفائدة على الإقتصاد بشكلٍ عام بل تُساهم في خلق "نُخب المجتمع الدولي" التي تتحدث بلسانهم لا بلسان حال هذه الفئة المستضعفة وكأنها تُلقّنهم ما يقولون.

استقطبت هذه المنظمات للعمل فيها النشطاء والفاعلين واستطاعت إحتواء نشاطهم وتوجيهه في سياق قد يبدو معزول عن العمل السياسي ولكنه يصب في سياسات الدول الداعمة التي تريد ورقة إنسانية للضغط على معارضيها من خلالها.

تفريغ المخيّمات من العمل السياسي المُنظّم كان مقصوداً، وتحويلها لبؤر فقر تتكاثر فيها جمعيّات إسلامية لتوزيع الصدقات ومنظمات مموّلة ذات طابع مطلبي وحقوقي بعيد عن السياسة، حرفها عن دورها التاريخي كروافع للعمل الوطني وقوة ضاغطة في وجه مشاريع إلغاء حق العودة والتوطين، ولكن تبقى المخيمات دائماً قاعدة شعبيّة كامنة بانتظار مشروع نهضوي وثوري حقيقي.

خاص - بوابة اللاجئين الفلسطينيين

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد