مقال: حيان جابر
تزايدت في الآونة الأخيرة أعداد الفلسطينيين الساعين وراء الهجرة أو اللجوء إلى دول العالم الأول، وهو ما يعني قرب حصول جميع الفلسطينيين الذين نجحوا في هذا المبتغى على جنسية الدولة المقيمين فيها أي تجنيسهم. متجاوزين بذلك مخاوف وتوجسات البعض من تأثير التجنيس على مستقبل القضية الفلسطينية وحق العودة خصوصاً، الأمر الذي يدفعنا للتساؤل عن الظروف والأوضاع التي دفعت عديد الفلسطينيين للمجازفة بحياتهم وحياة أطفالهم وأسرهم من أجل الوصول إلى إحدى الدول الأوروبية المتطورة كألمانيا، السويد، هولندا، وغيرها، وبتجاهل واع لمخاطر هذه الخطوة على المستقبل الفلسطيني.
قد يستند الجواب الأسهل إلى ربط تصاعد أجواء وتأثيرات الحرب على سوريا بتوجه الفلسطينيون إلى أوروبا، إلا أن التدقيق في الواقع الفلسطيني في الدول العربية عموماً والدول المحيطة بفلسطين المعروفة بدول الطوق خاصة يشير إلى تضافر العديد من العوامل والأسباب التي تدفع أي فلسطيني للتفكير في البحث عن ملجأ حقيقي يتيح له ولأطفاله فرصة للحياة الطبيعية اجتماعياً وعلمياً وسياسياً واقتصادياً، وهو ما يفسر اهتمام الفلسطينيين بأخبار الهجرة إلى كندا واستراليا ونيوزلندا وغيرها من دول العالم الأخرى قبل اندلاع الثورات العربية والثورة السورية خصوصاً، وبالتالي قبل اندلاع الحرب الدولية في سوريا، مع الإشارة إلى تأثير الحرب والأوضاع السورية على الطرق والوسائل التي اتبعها الفلسطينيون للوصول إلى أوروبا أو غيرها من دول الاستقرار والحضارة، فقد تساوت أو تقاربت احتمالات القتل والموت أو الاعتقال التعسفي طويل الأمد والمحفوف بخطر القتل تحت التعذيب داخل سوريا مع احتمالات الموت غرقاً في البحر أو خنقاً داخل شاحنات التهريب إلى أوروبا، ليختار الفلسطينيون طريق الهجرة غير الشرعية على الرغم من مخاطرها ومخاوفها متمسكين بآمالهم وأحلامهم بالوصول إلى إحدى دول الرفاه والحضارة وبالتالي الانتقال إلى دول ومجتمعات طبيعية يعيشون فيها حياة طبيعية متساوين في الحقوق والواجبات مع سائر مكونات المجتمع.
و بالتالي فقد شكلت ممارسات الأنظمة العربية القديمة والحديثة تجاه التجمعات الفلسطينية كالحصار والتضييق والخنق المركب المضاف إلى ذلك المفروض على المجتمعات العربية عموماً الدافع الأول لهجرة الفلسطينيين. حيث تطال هذه الممارسات جميع نواحي الحياة بداية من شكل وبنية المخيمات أو التجمعات الفلسطينية والتي تتميز برداءة خدماتها وعشوائيتها وكثافتها السكانية، فضلاً عما فرضته بعض الدول وأشهرها لبنان من إجراءات لحصار وتطويق المخيمات باستخدام جدران إسمنتيه أو طبيعية وكأنها سجون كبيرة مزدحمة بشرياً، ليفرض على الفلسطيني الإقامة والحياة داخل هذه التجمعات أو المخيمات المتراصة الأبنية لدرجة يصعب تسرب الهواء إليها نتيجة لتزايدها ونموها بشكل عمودي عاماً بعد عام حتى تلبي متطلبات النمو السكاني الحاصل، وطبعا دون أي اعتبار لشروط البناء والعمار الصحية منها أو لشروط السلامة العمرانية، فغالبية هذه الأبنية آيلة للسقوط بسبب أو دون سبب نتيجة لغياب الحد الأدني من التخطيط العمراني ومن التطبيق العملي لشروط البناء ولمحدودية المساحة الجغرافية المسموح للفلسطيني الإقامة داخلها. الأمر الذي ينعكس بشكل مباشر كتضخم دائم في الأزمات الخدمية المرافقة كالصرف الصحي، ومياه الشرب، وشبكات التيار الكهربائي والاتصالات، والمواصلات والخدمات الصحية والتعليمية، في ظل غياب شبه كامل لدور الدول العربية والدول المستضيفة خصوصاً، وكأنه شأن فلسطيني بحت أو شأن الأونروا فقط. لكن وعلى الرغم من فداحة هذا الوضع الكافي لدفع الفلسطينيين للبحث عن مستقبل أفضل إلا أن الواقع اليومي في دولنا العربية ينضح بالمزيد من الأسباب والعوامل المحرضة والمحفزة للهجرة واللجوء أو الهرب من هذا الواقع البائس، مثل صعوبات السفر إلى أي دولة عربية أخرى بحثاً عن ظروف حياة أفضل أو بحثاً عن العمل أو الدراسة، فعلى الرغم من وفرة فرص العمل لدى دول الخليج العربي إلا أن عملية استقدام اللاجئين الفلسطينيين من دول اللجوء العربية ذات إجراءات وشروط وظروف على درجة عالية من الصعوبة، وإن اختلفت درجة صعوبتها وفقاً لدولة اللجوء من مصر إلى لبنان إلى سوريا مروراً بالأردن والعراق، وعلى الرغم كذلك من توفرمساحات جغرافية شاسعة وخالية في تلك الدول كان من الممكن تجهيزها وإعدادها لاستقبال العديد من العائلات الفلسطينية. كما لابد من التذكير بالقيود والمعوقات العديدة على متابعة تعليم الشباب الفلسطيني في بعض دول اللجوء الرئيسية كلبنان مثلاً أو الأردن والمرتبطة بشكل مباشر بمنع الفلسطينيين من مزاولة بعض المهن أو الوظائف مهما كانت درجة تحصيلهم العلمي.
للأسف لا يمكن أن يتسع أي مقال لجميع الانتهاكات بحق الفلسطينيين في دولنا العربية، خصوصاً إن فندناها وفقاً للدولة المستضيفة ووفقاً لكل تجمع داخل هذه الدولة، فكثيراً ما تختلف شروط وظروف حياة الفلسطينيين داخل ذات الدولة العربية وفقاً للمخيم أو المدينة الموجودين فيها. لكن لابد من التطرق ولو على عجالة إلى انتهاج الأنظمة العربية لسياسة تكبيل الفلسطينيين سياسياً أيضاً وهو ما يتناقض مع الادعاءات الرسمية العربية التي تدور حول دعم نضال ونشاط الفلسطينيين من أجل استعادة حقوقهم المسلوبة وعلى رأسها حق العودة، هذا الحق الذي يتم بذريعته خنق ومحاصرة التجمعات الفلسطينية ومنعها من ممارسة حياتها اليومية بشكل طبيعي. حيث تم ويتم فرض الممثلين السياسيين الفلسطينيين المقربين من هذا النظام أو ذاك على كل التجمعات الفلسطينية وفقاً لسيطرة الدول العربية على هؤلاء الممثلين، بصورة موازية لمنع أي حركة سياسية منظمة وواعية تسعى أو تحاول مقاربة هموم ومشاكل التجمعات الفلسطينية وتعمل على بلورة آليات النضال الأمثل لاستعادة الحقوق المستلبة وبغض النظر عن طبيعة النشاط ومجاله أكان سياسياً أم قانونياً أم اجتماعياً. لنعيش واقعا سياسياً قائماً على تحييد دور وإرادة اللاجئين الفلسطينيين عن أي مسار نضالي وعن أي حل مطروح أومتداول مما يؤثر بالسلب على قدرة الفلسطينيين لاستعادة أي من حقوقهم المستلبة وعلى رأسها حق العودة.
في المحصلة، لقد حولت الأنظمة العربية الفلسطينيين وقضيتهم إلى أوراق للعب وللضغط إقليمياً ودولياً من أجل تكريس نفوذ هذه الدولة أو تلك، بما يخدم مصالح مافياتها الحاكمة، دون أي اعتبار لمصالح الفلسطينيين اليومية منها والوطنية. الأمر الذي دفع الفلسطينيين نحو الحل الفردي الذي يضمن لهم ولأسرهم حياة طبيعية، وقد يضمن لهم امتلاك قراراهم وإرادتهم الفردية والجماعية الاجتماعية والسياسية، مما قد يعيد لجموع اللاجئيين دورهم وتأثيرهم الحيوي في الدفاع عن جميع حقوقهم كخطوة أولى لاستعادتها وعلى رأسها حق العودة المثبت والمقر دولياً.