ألمانيا - بوابة اللاجئين الفلسطينيين
تقرير: زينب زيّون
مما لا شك فيه أنّ احتلال فلسطين أدى إلى حصول أكبر مأساة عرفها التاريخ، إن من ناحية نشوء قضية اللاجئين الفلسطينيين، أو لناحية المدّة التي استمر فيها هذا اللجوء، حيث لم يعرف التاريخ الحديث قضية مماثلة. هذا الأمر أضاف مزيداً من التعقيد على الوضع القانوني لهذه الفئة من اللاجئين، خاصة فلسطينيي لبنان الذين يُعانون حرمان الدول اللبنانية المستضيفة لهم من حقوقهم المدنية، وحق العمل في الكثير من المهن، وكذلك حق التملك.
لؤي قشقوش، لاجئ فلسطيني من مخيّم البداوي شمالي لبنان، هاجر إلى ألمانيا، علّه يجد فرصة لحياة كريمة فيها. فبعد علمه بمرض زوجته، التي تُعاني من مرض سرطان الدم (الحميمي)، دخل في دوامة كبيرة، فثمن العلاج الشهري باهظ في لبنان، وهي بحاجة إلى دواء "Tasigna" والذي يبلغ ثمنه 5500000 ليرة لبنانية.
عن كيفية تأمين المبلغ المالي لمعالجة زوجته، قال قشقوش لـ "بوابة اللاجئين الفلسطينيين": "أعمل في مركز للانترنت داخل المخيّم وأتقاضى مبلغاً يكفيني لتأمين لقمة عيش كريمة لعائلتي، كان همي الوحيد تأمين مستقبل أولادي، لكن عندما علمت بمرض زوجتي، صار تفكيري موجّه نحو موضوع واحد وهو كيفية تأمين المبلغ المطلوب لتوفير العلاج المناسب لها".
وتابع: "في البداية كان العلاج مؤمّناً، كنت أدفع 50 ألف ليرة لبنانية كل شهر، ووكالة "الأونروا" تتكفّل بالمبلغ كاملاً، ولكن، بعد اتباع الأخيرة سياستها التقليصية، أي في بداية سنة 2015، أخبرنا طبيب في عيادة "الأونروا" وهو المسؤول عن علاجها، بأنّ الوكالة سوف تتوقف عن تقديم العلاج، وأنّه بات يتوجب علينا إيجاد مؤسسة أو جهة بديلة أو التواصل مع وزارة الصحة اللبنانية لتأمين تكلفة العلاج، علماً أنّ وزارة الصحة في لبنان لا تُغطي نفقات علاج مرضى السرطان في صفوف اللاجئين الفلسطينيين".
"الأونروا" توقفّت في شهر تموز 2015، عن تقديمها العلاج لزوجتي، قال القشقوش، ليحلّ الكابوس عليه وعلى أسرته وأطفاله، فالطبيبة المختصة بعلاج زوجته قد أخبرته أنّها لا تستطيع إيقاف العلاج، وعليها متابعته بشكل شهري.
فرغم أنّ الطبيبة مع مؤسسات لبنانية واستطاعت تأمين علاج لمدّة شهرين، إلّا أنّه بعد ذلك لم يجد لؤي أيّة جهة تتكفّل بالعلاج، في ضوء استمرار "الأونروا" بتنفيذ سياستها التقليصية. الأمر الذي دفعه للاعتصام أمام مكتب مدير "الأونروا" في مخيّم البداوي، للمطالبة بإعادة صرف العلاج.
الفصائل الفلسطينية حاولت التدخل لحلّ ولملمة الموضوع، وفق قشقوش، فعرضت أن تدفع "الأونروا" نصف الثمن والمنظمة الربع وهو يتكفّل بالمبلغ المتبقي، أي 1200000 ليرة لبنانية. فرفض قشقوش هذا الحل، واستمر في اعتصامه أمام مكتب "الأونروا"، لمدّة 22 يوم، حتى جاءه الجواب بأنّ الوكالة وافقت على إعادة صرف الدواء المسبق ذكره.
في هذا الوقت جلس لؤي وزوجته، وأخبرها أنّه من الممكن وفي أي وقت، أن تتوقف "الأونروا" عن صرف العلاج لها، وفكّر حينها بمغادرة لبنان بأيّ طريقة، والتوجّه إلى دولة أوروبيّة. فالفلسطيني في لبنان، محروم من مزاولة العديد من المهن، ناهيك عن المأساة والبطالة التي تزداد يوماً تلو الآخر، داخل المخيّمات، والتي أنتجت انتشار العديد من الآفات بما فيها المخدرات، ما يجعل للهجرة مبررات إضافيّة خوفاً على الأسرة والأطفال.
قرر قشقوش السفر وزوجته وولداه، محمود (5 سنوات) وبيسان (3 سنوات). وصف لؤي لـ "بوابة اللاجئين الفلسطينيين" رحلته من لبنان إلى ألمانيا، والصعاب التي أعاقت طريقه، قائلاً: "قررت ترك لبنان والسفر إلى دولة أوروبية، لكنّ السفر بحاجة إلى مبلغ مالي باهظ وليس من السهل جمع هذا المبلغ، طلبت المساعدة من رفيق لي في العمل، الذي وقف إلى جانبي وأعطاني المبلغ الذي أحتاج إليه للسفر.
حدد لؤي ألمانيا كوجهةٍ له، وبدأ التواصل مع المهرّب الذي سينقلهم في رحلة شاقّة، انطلقت من الأراضي السوريّة. دخلنا إلى سوريا برفقة صديق لي عبر نقطة المصنع، فكانت البداية سهلة وفق قشقوش، وعند وصولنا كان الوضع مغاير، فالحواجز كثيرة لكنّ المهرّب كان قد طمأننا بأنّ الطريق آمن وبأنه سيتولى الأمر ويدفع المال لكي نستطيع المرور دون عوائق عبر تلك الحواجز.
وتابع: "وصلنا إلى دمشق، وكان بانتظارنا شخص من طرف المهرب، ساعدنا للانتقال من دمشق إلى حماة. كنّا نعتقد أننا مجموعة صغيرة، لكنّ الصدمة كانت عند وصولنا إلى حماة، ففي فندق النواعير، أكثر من عشرين شخص يحملون الوثيقة الفلسطينية اللبنانية، كانوا ينتظرون للانتقال إلى تركيا. وبعد ساعة، جاء الأمن العسكري وأخذنا جميعاً للتحقيق معنا".
"حالة من الخوف والهلع اجتاحت نفوسنا"، بهذه الجملة وصف لؤي الحالة السيئة التي سيطرت عليهم. وتابع قشقوش: "عند الساعة الواحدة ليلاً، جاء شخص ليخبرنا أننا سنعود إلى الفندق، وبأن الرحلة إلى تركيا باتت مستحيلة، فعلى كل شخص العودة إلى المكان الذي أتى منه، عند شروق الشمس.
طلبتُ من زوجتي دخول الغرفة لترتاح ولتكون إلى جانب الأولاد، لكنّها فكرة واحدة ظلّت تدور في رأسي يقول لؤي وهي: "لا نستطيع العودة ونسيان ما وصلنا إليه، علينا أن نتحلى بالصبر وإيجاد طريقة مناسبة لمتابعة الطريق والوصول إلى الدولة المنوي الوصول إليها".
فعلاً، تواصل لؤي مع المهربين، في حديث طال حتى صباح اليوم التالي. و عند الفجر، همّ الجميع للعودة، إٍلا لؤي أبى الرضوخ للأمر الواقع، حيث قرر متابعة الطريق برفقة صديقه، الذي رافقه منذ بداية الطريق. وأشار لؤي إلى أنّ "الغموض كان سيّد الموقف، فالوصول إلى تركيا، علينا أن ندخل منطقة تابعة للمعارضة السورية، وربما يحدث ما ليس في الحسبان.
فجرت الأمور عكس الهواجس، حيث كان الطريق سهلاً، إلى الحدود السورية التركية، وكان المهرب بانتظاره، وبعد محاولات عدّة لعبور الحدود اتسمت بالفشل في بدايتها، لكنه استطاع أخيراً مع زوجته وأولاده عبور الحدود بعد عدّة محاولات متكررة.
و بعد دخول تركيا يقول لؤي، اعتقدنا أنّ الخطر قد زال، وبالفعل من الحدود إلى مدينة أزمير كانت الطريق سهلة، ومن أزمير دخلنا إلى أوروبا عبر زورق الموت، حيث حدّد المهرب الموعد وانطلقنا، لكنّ كان للمهرب أسلوباً غريباً، فقد تمّ تغيير السيارة التي ستوصلنا إلى نقطة الانطلاق ثلاث مرات. في هذا الوقت وصلنا خبر سيء، وهو أنّ قارب كان متّجه إلى أوروبا قد غرق وكل من كان على متنه لقو حتفهم.
التمسك بالوصول كان سيد الموقف. انطلق حوالي 52 شخصاً على قارب صغير، حالة من الخوف سيطرت على الجميع، خصوصاً الأطفال، وبعد ثلاث ساعات مكللة بالصلاة والدعاء، وفق ماقال لؤي، وصل القارب إلى شاطئ جزيرة ساموس باليونان، وكان بانتظارهم باص ضخم لنقلهم إلى مكان مخصص لللاجئين، قبل وصولهم إلى ألمانيا، ففي هذه المنطقة كانت الطريق مغايرة، كان هناك من يساعدهم للانتقال من دولة إلى أخرى، حتى وصلوا إلى الدولة المنوي الوصول إليها وهي ألمانيا.
"رحلتي إلى ألمانيا أسميتها رحلة الموت". بهذه العبارة وصف لؤي رحلة لجوئه إلى ألمانيا، منوّهاً إلى أنّها كانت رحلة من الظلام ونحو الظلام".
يسكن لؤي، حالياً، في مقاطعة راين فالس، غربي ألمانيا، لا يعمل، فهو وزوجته يدرسان اللغة الألمانية، بينما يقع على عاتق الحكومة الألمانية التكفّل بعلاج زوجته، الهدف الذي سعى وخاطر من أجل نيله.
وبالنسبة للمشاكل التي يُعاني منها اللاجئ الفلسطيني في ألمانيا، قال لؤي: "أهم الأمور التي يجب أن تتوفر للعيش في ألمانيا هي: السكن الجيد، العمل الجيد، الإقامة الجيدة، ثلاث أشياء غير مسموحة لي حالياً. لا أملك إقامة، ولا مكان للسكن يليق بعائلة مؤلفة من أربعة أفراد، وغياب الأوراق يعني أنّ الإنسان محبوس بسجن كبير داخل ألمانيا، وممنوع من الخروج. وعوضاً عن ذلك، فبطاقة الهوية كُتب عليها "لا وطن"، مكان الجنسية، وذنبنا الوحيد أنّ فلسطين محتلة، ويا له من ذنب عظيم".
فعدد قليل من الشباب الفلسطيني اللبناني استطاع الحصول على إقامة، وذلك بعد مرور أكثر من خمس سنوات. خمس أو ست سنوات تضيع من عمر اللاجئ الفلسطيني حتى يحصل على الإقامة، هذا إن حصل عليها. فالهجرة إلى الدول الأوروبية ليست كما كان يظن البعض، فهي صعبة، وشاقة.
قصّة لؤي، تكثّف مفردات الواقع المزري الذي يعيشه اللاجئون الفلسطينيون في لبنان، والذي يدفعهم نحو ركوب الموت والهجرة نحو الغموض، فللتغلب على المعاناة التي تربّصت بهم في مخيّمات لبنان، ينحو اللاجئون إلى خيار الهجرة، هرباً من واقع الحرمان من أدنى الحقوق الإنسانية الكريمة، وقيود القوانين العنصريّة، التي تحسبه في مخيّمات بائسة تحيط ببعضها أسوار الفصل العنصري الأمنيّة. هرباً من الموت أمام أبواب المستشفيات، وقلّة الحيلة للحصول على حقّ العلاج.
فإلى متى سيبقى اللاجئون الفلسطينيون مهمّشين، مُهملين حتّى من قبل الأطر المعنيّة بشؤونهم، كوكالة "الأونروا" ومنظّمة التحرير الفلسطينيّة؟، إلى متى سيستمر الحرمان من حقوقهم المدنية والانسانيّة الأساسيّة من قبل الدولة اللبنانية؟. لم تغب هذه التساؤلات عن ذهن لؤي ولا أيّ لاجئ فلسطيني دفعه الواقع إلى الهجرة من أجل أبسط حقّ من حقوقه. فغموض المستقبل في ظل استمرار انعدام الإجابة عن تلك التساؤلات، إلى ماذا سيدفع بنحو 56 ألف أسرة فلسطينية لاجئة في لبنان وفق أرقام الإحصاء الأخير لا تزال تحلم بحق العودة إلى فلسطين؟.
اللاجئ الفلسطيني لؤي في روضة أطفال بألمانيا يعزف احدى المقطوعات من التراث الفلسطيني