رائد وحش
ليس من عادة الأمكنة أن تموت، الموت عادة الناس. وحتى في أعتى الحروب وأشرسها، لم يحدث أن سُجلت وفاة مكانٍ من قبل. قد تتجدّد الأمكنة تجدّدًا طبيعيًا كما تفعل أجساد البشر كلّ عدة سنوات، فلا يبقى شيءٌ على حاله. ومثلما أن الجسد الذي نعيش فيه ليس هو الجسد نفسه فيزيائيًا من حيث تغيّر الجلد والشّعر والخلايا... إلخ، كذلك تعمل الأمكنة على تجديد نفسها على الدوام لتستمر فيها الحياة، أو لتستمر في الحياة. تفتتح شوارع جديدة وتغلق أخرى، تشيّد أبنية وتهدم سواها، أجساد الأمكنة كأجساد الكائنات تواصل تجديد نفسها.
لطالما أضاف التاريخ إلى الجغرافيا أمكنةً لا وجود لها، أسطوريةً وحكائيةً، وصار عليها أن تعيش كما لو أنها تُسكن وتُزار
ليس هناك مكان ميّت. يكفي أن يسجّل التاريخ اسمه، بالأحرى حكايته، لكي يبقى حيًّا إلى الأبد في الذاكرة البشرية. بل لطالما أضاف التاريخ إلى الجغرافيا أمكنةً لا وجود لها، أسطوريةً وحكائيةً، وصار عليها أن تعيش كما لو أنها تُسكن وتُزار، وصار علينا أن نعيش كما لو أننا كنا فيها. بعض الأماكن غدت أوابد وأطلال، وسواء اكتشفتها الحفريات الأثرية أو لم تكتشفها، لا تزال موجودةً، أو إنها موعودة بالوجود.
وحدها المخيمّات تموت. من بين كل الأمكنة المرشّحة للموت لن تجد إلا مخيّمات. هل أضرب تل الزعتر مثلًا؟ الأمر ذاته ينطبق على مخيمات الفلسطينيين في سوريا، فبينما يجري الإجهاز على مدنٍ وبلداتٍ وقرى، في سياق حرب الإبادة المعلنة على سوريا كجغرافيا ومكان، يبقى الفارق أن مصير الأماكن السورية سيكون مصير أمكنة أخرى مرّت عليها الحروب. لكن من سيبني المخيم مرة أخرى؟ ولماذا يبنيه؟ تبدو المسألة شطحًا من شطحات التراجيدية.
تحوّل المخيم (وهنا أعني اليرموك وخان الشيح والسّبينة وحندرات والنيرب ومخيمات درعا وحمص...) من مكانٍ نعيش فيه إلى مكانٍ نؤبّنه، نعم نحن نؤبنه بينما نراقب موتَه كل يوم. في البدء شهدنا نزيفه وهو يودّع أولاده الذين يغادرون أفواجًا، مدفوعين باليأس والخوف والبحث عن الأمان. ثم بدأنا نراه يمحى شيئًا فشيئًا.
أمكنة كثيرة شهدت هجراتٌ كبرى، صحيح أنها خسرت الروح، لكن الصحيح أيضًا أنها ظلّت كما هي في الواقع، وكما يجب أن تكون في خيال المهاجرين، لكن أبناء المخيمات الفلسطينية لن يعودوا، لن يكون لديهم ما يعودون إليه. هم بالأصل من مكان مقامٍ بغرض إقامة قصيرة، وسوف يزال حين تحين العودة إلى البيت، إلى الوطن-الحلم. لكن الواقع جعل المخيمات تشهد ما كان يجب أن تشهده من رحيل كبير كانت قد وُعدت به، لكن المأساة أنّه كان إلى كل الجهات، باستثناء الجهة المتفق عليها.
هكذا يمكن اعتبار المخيم هزيمة شخصيةً تخص كل واحد منا، فلا حققنا منه العودة، ولا جعلناه مكانًا محررًا وثوريًا.
يبدأ أبناء مخيم خان الشيح يومهم بتتبع أخبار القصف والبراميل والصواريخ وإحصاء الشهداء والجرحى والبيوت المهدّمة. عمليًّا هم يراقبون موتهم من شاشاتهم الافتراضية. الباقون هناك يشاهدون، بأمّ العين، تضيّق المساحة، وتقلّص الحركة، وعلو الرغبة الداخلية الطبيعية فيهم بالنجاة. هؤلاء وهؤلاء يعاينون الموت نفسه من مكانين. المفارقة أنّ من في الداخل منشغلون بمتابعة حيوات من في الخارج، في نوع من حماية الذات من الموت القريب، وإطعام النَّفْس فاكهة الأمل المرة، فقد باتوا يرددون بعض الكلمات الأجنبية التي يلتقطونها من صفحات المهاجرين، ويتدربون على أسماء العلم الغريبة لأمكنة ربما لن يروها.
من في الخارج، بعدما فقدوا أي أمل بزيارة، يبدأ المكان يموت فيهم. ليس بمعنى النكران، بل بمعنى غياب ذاكرة الاستحضار نتيجة البعد والاغتراب والألم والمعاناة. تغيب تفاصيل لطالما كانوا يحفظونها عن ظهر قلب: كتابات حمقاء على الجدران أضحكتهم كثيرًا، زقاق ضيق لعبوا فيه أطفالًا، بيتٌ بات من العلامات الفارقة في وجه المخيم، محلّ شهير... إلخ.
إن الدفاع عن المخيم، لا سيما في اللحظة التي يموت فيها، هو دفاع عن الذات والأهل والذاكرة
اليوم يطلق ناشطون في خان الشيح حملة يناشدون فيها أبناء المخيم في المنافي بأن يتحركوا لنصرة الباقين من عجائز ونساء وأطفال. يحرضونهم لأنهم لم يتحركوا من قبل لأجل خان الشيح مثلما فعل أبناء اليرموك مرارًا. الحملة أقرب ما تكون إلى نداء الاستغاثة، بعد اليأس من "الأونروا" ومنظمة التحرير. يريدون أن يقولوا إن الدفاع عن المخيم، لا سيما في اللحظة التي يموت فيها، هو دفاع عن الذات والأهل والذاكرة، وليس دفاعًا عن مكان مقدّس، المخيم أصلًا وفصلًا مكان مدنّس. هو دفاع عن الضحايا الذين نعرفهم بالاسم والوجه والحياة والحكاية، والذين قرروا أن يظلّوا هناك ليظل المخيم مخيمًا.
يثير الاستهجان ذلك الصمت الذي طبع أفواه أبناء مخيمنا. لا يثيرون أية ضجة حول مكانهم، لا يكتبون عنه إلا عبارات دينية تدعو إلى الصبر، أو يشيرون إلى غلاء المعيشة، لكنهم نادرًا ما يتحدثون عن القتلة، أهو الخوف؟ ربما! كيف يمكن أن تخاف على أن تؤذي أهلك بكلامٍ في السياسة قد يثير حفيظة النظام، وهم بطبيعة الحال تحت النيران، وإذا ما تسنى لجيش هذا النظام الدخول إلى المنطقة فسوف يقضي عليهم؟ علامَ التبرير إذن؟
لعلهم صامتون لأنهم صاروا مخيمات! نعم يتحول البشر إلى مخيمات، أو أنّ المخيمات تضع أسراها فيهم، فتتركهم، مثلما كانت بعد النكبة، في العراء صامتين!
بات خان الشيح مكانًا مفقودًا من دون أن يكون فردوسًا. الفراديس المفقودة وجدت مستقرًّا لها في الأشعار والأغاني، صنعت حياةً أخرى في اللامكان، أما هو فليس له إلا أن يحوّلنا مثله، أن يجعلنا نكونُهُ، أن نصبح مثله قطعةَ أرض مقطوعةً عن أمها ومرميةً لتنمو في أرض أخرى.
لكم تمنيّت أن أصبح قوّالًا، أكتب عنه أزجالًا تستطيع الأمهات والجدات أن يغنينها، في الأعراس والمآتم على حد سواء، لكنني خنته في كتابة لا تستطيع أمّي أن تتحسّسها. إلا أن ضحايا ركاب الميكروباص الذين ماتوا في الصباح بشظايا قذيفة، وفي المساء ذاته سقط أقاربهم في البيوت وبين الحارات، ووجه المجنون ضاحكًا ببلاهةٍ تشبه الحياة في صورة نعوته، والدماء التي طمستْ ملامح الفتى الذي نُسميّه "بيليه" لشبهٍ بينه وبين نجم الكرة العالمي، وكل ما على تلك الخريطة المعرّفة بحيوات بشرٍ تظلّ الأخبار تعاملهم بصيغة التنكير؛ ذلك كلّه.. كلّه يجعلني أصير مخيمًا يبدأ بمقبرة وينتهي بأخرى، وبين المقبرتين بيوتٌ تكمل المشهد الناقص وتتحول إلى قبور، لتصل المقبرتين ببعضهما البعض، ولكن يا للهول! إنهم يقصفون القبور.. إنهم يميتون الموتى!