مقال: أوس يعقوب
ينتهي دور وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا"، وقضية اللاجئين فقط عندما يطبق القرار الأممي ١٩٤ بالعودة إلى فلسطين المحتلة. هذا ما يؤكد عليه اللاجئون الفلسطينيون في الوطن المحتل والشتات كلما شعروا بخطر تصفية الوكالة الدولية، التي يروون فيها هيئة شرعية ووحيدة مبنية على أسس القرارات الدولية المخصصة لمساعدتهم وإغاثتهم، إلى أن يتم تحقيق الحقوق المشروعة للاجئين بالعودة والتعويض.
إنّ أي إجراء لتصفية "الأونروا" وإنهاء دورها سيكون دليلاً إضافياً للاجئين الفلسطينيين، على أنّ المجتمع الدولي تخلى عن قضيتهم، مما سيزيد في يأسهم ويعزز احتمال تفجيرهم للأوضاع بالمنطقة عامة وخاصة في مدن الضفة الغربية المحتلة وقطاع غزة.
لدى حكومات تل أبيب المتعاقبة تاريخ طويل من العمل والفعل المعادي للخلاص من "الأونروا" المسؤولة عن نحو ستة ملايين لاجئ فلسطينيّ، بعد أن كان هذا العدد يقارب السبعمائة ألف عام النكبة 1948، وكانوا يشكلون سنتذاك ثلثي عدد الفلسطينيين الذين هجروا قسراً من أرضهم.
ويتمثل الهدف "الإسرائيلي" الرئيسي في تصفية "الأونروا" بنقل اللاجئين الفلسطينيين من عهدة هذه الوكالة إلى المفوضية السامية للاجئين التابعة للأمم المتحدة، قصد تحويل قضية اللاجئين وحق العودة من قضية سياسية إلى قضية إنسانية شأنهم في ذلك شأن عشرات الملايين من اللاجئين من ضحايا الحروب حول العالم.
ومن التبريرات التي تطرحها "الدبلوماسية الإسرائيلية" في المحافل الدولية للدفع باتجاه تصفية "الأونروا"، أن الوكالة تبث مفاهيم الكراهية، وتدعم الأنشطة المسلحة، وأن مؤسساتها التعليمية ومناهجها الدراسية تحث على معاداة "إسرائيل"، وتجري غسل دماغ للطلاب لإغرائهم بممارسة العنف ضد اليهود، خاصة في قطاع غزة حيث تدير "الأونروا" أكثر من 700 مدرسة، يدرس فيها نحو 525 ألف طالب يتلقون التعليم الأساسي، ويعتبر القطاع الذي تسيطر عليه حركة حماس منذ حزيران/ يونيو 2007، منطقة العمليات الأكبر لهذه الوكالة حيث بات يعتمد ما نسبته 80% من سكان القطاع البالغ عددهم نحو مليوني فلسطينيّ على مساعداتها في محاولة للتخفيف من وطأة اليباس جراء الحروب والحصار الذي يفرضه الاحتلال الصهيوني منذ إحدى عشرة عاماً.
وأَنشأت الجمعية العمومية في الأمم المتحدة وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا"، في كانون الأول/ ديسمبر 1949، من أجل تقديم الإغاثة إلى اللاجئين الفلسطينيين وتعزيز إعادة اندماجهم الاجتماعي والاقتصادي.
وقد أصبحت إلى جانب النظام الدولي لحماية اللاجئين حول العالم ممثلاً بـ"المفوضية العليا للاجئين" التي استُبعد منها اللاجئون الفلسطينيون، واحدة من أكثر المنظمات التابعة للأمم المتحدة تأثيراً. ويشكّل الستة ملايين شخص -عدد اللاجئين الأصليين وذرّيتهم- المسجَّلون حالياً في مناطق عمل الوكالة (سوريا، الأردن، لبنان، الضفة الغربية، وقطاع غزة)، العددَ الأكبر من اللاجئين في العالم.
الخطوة الجديدة في مسار تصفية "الأونروا" أقدم عليها مؤخراً الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وقد تمثلت بتقليص الإدارة الأمريكية، التي تتصدر قائمة الدول الممولة لها، مساعداتها السنوية هذا العام، حيث حوّلت الشهر الماضي 60 مليون دولار من أصل 125 مليوناً تمثل مساهمتها السنوية في موازنة الوكالة الأساسية.
وتقدم الولايات المتحدة أكثر من ضعف هذا الرقم مساعدات للبرامج والموازنات الطارئة لـ"الأونروا" سنوياً، وهو ما جعل القيمون عليها يحذرون من أزمة جديدة عاصفة تضاف لأزماتها التي تعاني منها أصلاً، حيث بلغ عجز الموازنة في العام المنصرم 49 مليون دولار.
ويقول مسؤولون بارزون في وكالة الغوث إنّ "الأونروا" تواجه عجزاً خانقاً في موازنتها مع تقليص الإدارة الأمريكية لمساعداتها لنحو النصف والتلميح بوقف المساعدات كلياً، والتي تقدر سنوياً بنحو 300 مليون دولار حيث يشكل هذا المبلغ ثلث موازنة "الأنروا"، في حين ألمحت الصحف "الإسرائيلية" بأن حكومة نتنياهو طلبت من واشنطن تحويل أموال الوكالة المخصصة لقطاع غزة لتمويل مشاريع البنية التحتية لمنع الانفجار في وجهها، إلا أن إدارة الرئيس ترامب رفضت ذلك.
وقد أعلنت إدارة "الأونروا" من جهتها أنّها بصدد المشاركة في مؤتمر في الشهر المقبل لجمع التبرعات التي تحتاجها للعام 2018، والتي تقدر بثمانمائة مليون دولار، بعد أن اتخذت إجراءات قاسية تجاه اللاجئين في قطاع غزة، ستصل ذروتها في نيسان/ ابريل المقبل بوقف الحصص الغذائية.
ويلاحظ المتابع لعمل "الأونروا" أنه منذ الإعلان عن القرار الأميركي القاضي بتقليص 65 مليون دولار من حصة أمريكا المالية المقدمة للوكالة، تعيش الأخيرة حالة استنفار غير مسبوقة في مناطق عملياتها الخمس: قطاع غزة والضفة الغربية ولبنان والأردن وسوريا. سعياً لاستمرار عملياتها في قطاعَ التعليم (المرحلة الابتدائية غالباً، وتشمل في لبنان المرحلة الثانوية)، والتدريب المهني، والرعاية الصحية (الوقائية والعلاجية معاً)، والخدمات الاجتماعية، وتمويل المشاريع الصغيرة، وتحسين البنى التحتية في مُخيّمات اللاجئين في الأراضي الفلسطينية المحتلة ودول الطوق.
فلسطينيّو سوريا بلغة الأرقام ..
وكالة الغوث التي تواجه اليوم "أزمة مالية وجودية" تركت ملايين اللاجئين الفلسطينيين في كافة مناطق تواجدهم في حالة قلق، كما أنّها ستزيد الآن وأكثر من أي وقت مضى، معاناة اللاجئين الفلسطينيين السوريين الذين يواجهون ويلات الحرب المُستعرة منذ سنوات، خاصة بعد أن أعتبرت "الأونروا" أنّ شهر نيسان/ ابريل المقبل، موعداً حاسماً حول مستقبلها.
وفي حال لم يتوفر التمويل المطلوب لبرامج "الأونروا" التي تقدم بشكل دوري للاجئين الفلسطينيين، فسيكون للأمر انعكاسات خطيرة على حياة اللاجئين في الضفة والقطاع ومُخيّمات الشتات في الاردن ولبنان وسوريا.
بلغة الأرقام ووفق تقديرات "الأونروا"، بلغ عدد اللاجئين الفلسطينيين في سوريا قبل اندلاع الأحداث في 2011، نحو 530 ألف لاجئ، بيد أن العدد الفعلي للفلسطينيّين المقيمين في سوريا قبل وقوع الأزمة، قد يصل إلى 600 ألف شخص، نظراً إلى أنّ "الأونروا" لم تُسجّل في سجلاتها معظم الفلسطينيين الذين وفدوا إلى سوريا بعد موجة عام 1948، من الأردن ولبنان والضفة وغزة. وكان هؤلاء يتوزعون على عشرة مُخيّمات في المدن والمحافظات السورية المختلفة، ولا يعتبر مُخيّم اليرموك - الذي كان يضم نحو 130 ألف فلسطينيّ - مُخيّماً من عداد المُخيّمات المعترف بها من قبل الوكالة، حيث بات للمُخيّم بلدية خاصة به تعمل في إطار وزارة الإدارة المحلية السورية.
وحسب معطيات معهد الإحصاء السوري يتركز 68.8% من إجمالي اللاجئين في العاصمة السورية دمشق، والمُخيّمات القائمة في ضواحيها مثل اليرموك، سبينة، جرمانا، خان الشيح، خان دنون، الست زينب، الرمدان، والحسينية. في حين يتوزع الباقون 31.2% على المحافظات الأخرى، اللاذقية، حلب، حماه، حمص، درعا، والمُخيّمات القائمة فيها.
وقد لقي اللاجئون الفلسطينيون في سوريا احتضاناً من الشعب السوريّ منذ النكبة. فالقانون رقم 260 الذي صدر عام 1956، وحافظتْ عليه الحكومات السورية المتعاقبة، أعطاهم حقوقاً في التملّك والعمل والدراسة والوظائف الحكومية والانتساب إلى النقابات والاتحادات المهنية بما يضمن لهم حياةً كريمة ويحفظ هويتهم الوطنيّة. وهذا ما انعكس حالةً من الرضى والاستقرار لديهم (خصوصاً لدى مقارنتهم باللاجئين في لبنان)، فأصبحوا جزءاً من النسيج الاجتماعي السوري، يتشاركون مع السوريين أغلبَ الظروف المعيشية والسياسية والأمنية، مع احتفاظ اللاجئين بهويتهم الوطنية وتمسكهم بحق العودة إلى وطنهم.
ومع بدء الاحتجاجات الشعبية في سوريا وتطور الأحداث فقد جعل حجم التواجد الفلسطيني في سوريا، وتركزه خصوصاً في ضواحي العاصمة دمشق وضع اللاجئين الفلسطينيين عملياً داخل ساحة الأزمة المشتعلة في غاية الصعوبة والتعقيد، خاصة بعد أن تحوّلت معظم المُخيّمات الفلسطينية في المحافظات السورية جزء من ساحة الحرب المُشتعلة وجعلها مناطق منكوبة تشرد سكانها على وقع القصف وعمليات القتل شبه اليومية، حيث تشير هيئات حقوقية فلسطينيّة ناشطة في سوريا إلى أنّ حصيلة الضحايا الفلسطينيين في سنوات الحرب تجاوزت الـ 3650 قتيل، كما أن ثلاثة أرباع اللاجئين الفلسطينيين تم تهجيرهم من مُخيّماتهم خلال السنوات الماضية جراء الحدث المشتعل.
ملامح الكارثة الإنسانية بعد (الميغ) ..
أزمات اقتصادية ومعيشية خانقة يعاني منها اللاجئون الفلسطينيون في سوريا اليوم، بعد أن لحق دمار كبير بمُخيّمات اليرموك وخان الشيح وسبينة بريف دمشق، ومُخيّم العائدين في حمص، ومُخيّمي النيرب وحندرات في حلب شمالي سوريا، ومُخيّم درعا جنوبي البلاد، وهو ما أجبر معظم سكانهم من اللاجئين على النزوح إلى الداخل السوري أو دول الجوار (لبنان، الأردن، مصر، العراق، وتركيا)، أو اللجوء إلى الهجرة غير الشرعية عبر "قوارب الموت" باتجاه الدول الأوربية والاسكندنافية.
حقيقة الأمر أنّه لا توجد إحصاءات دقيقة لعدد الفارين من اللاجئين الفلسطينيين من سوريا، وإنما ما يوجد هو تقديرات، وهي تفيد بأن أعدادهم تتجاوز 200 ألف نسمة، حتى أواخر العام 2017. وبحسب مسؤولين بـ"الأنروا" فإنّ "الحرب الدائرة في سوريا تسببت بتهجير نحو ثلاثة أرباع اللاجئين الفلسطينيين في سوريا من مُخيّماتهم، نحو 70% إلى 80% منهم مهجّرون الآن، بسبب النزاع في البلاد".
ومنذ قصف جامع عبد القادر الحسيني في قلب مُخيّم اليرموك في الخامس عشر من شهر كانون الثاني/ ديسمبر 2012 بطيران (الميغ) بعد يومين من دخول عناصر مسلحة تابعة للمعارضة السورية، خرج أكثر من 70% من سكان المُخيّم باتجاه مدينة دمشق وضواحيها والاراضي اللبنانية، التي استقبلت الآلاف منهم إثر ذلك اليوم، بينما بقي في المُخيّم نحو 30 ألف فلسطينيّ ومثلهم من السوريين، خرج ثلثهم في الشهور اللاحقة، ليبقى الآن بضعة آلاف من الفلسطينيين والسوريين، وجميعهم تتفاقم معاناتهم يوماً بعد يوم، بعد أن صار المُخيّم في قلب الحدث المشتعل، واجتاحه تنظيم "داعش" المتشدد في نيسان/ ابريل 2015 ما أسهم في استمرار وتصاعد المعاناة جراء احتدام الصراع بين الأطراف المتحاربة.
ويوماً بعد يوم تتّضح ملامح الكارثة الإنسانية والاقتصادية التي أفرزتها الحرب هنا، والتي يعيش فصولها الفلسطينيون كما أبناء البلد، فالبيانات والمؤشرات الإحصائية الصادرة حديثاً تؤكد أنّ استمرار الوضع على ما هو عليه اليوم لأشهر أخرى يعني أنّ سوريا دخلت في المجهول كدولة ومؤسسات ومجتمع.
وتُقدِّر "الأونروا" في تقرير أصدرته العام الماضي حول حجم الأزمة، أنّ نحو 400 ألف لاجئ فلسطينيّ ممن كانوا يُعيلون أنفسهم باتوا اليوم بحاجةٍ إلى مساعدة إنسانية. وبين التقرير أنّ نحو 32 ألف نسمة من هؤلاء لجؤوا إلى لبنان، و4.500 إلى الأردن، وفرَّ بعضهم الآخر إلى تركيا والعراق ومصر.
ويعدّ نقص التمويل الذي تعاني منه "الأونروا" في الوقت الراهن، والذي يعوق قدرتها على مساعدة اللاجئين الفلسطينيين في سوريا أو الفارين منها باتجاه دول الجوار، هو وجهٌ آخر من عدم اعتراف صانعي القرار داخل منظومة الأمم المتحدة بالحقوق الوطنية الفلسطينية.
لقد كانت رؤية الولايات المتحدة وبريطانيا، القوتين الأكثر نفوذاً في التخطيط لبعث وكالة الغوث، أن تكون مهمتها مقتصرة على تقديم الدعم المؤقت ومن ثم إدماج اللاجئين الفلسطينيين في الاقتصادات العربية الأخرى. وعلى هذا النحو يتلاشى الفلسطينيون، باعتبارهم شعباً ذات حقوق قومية، من خلال احتضانهم في منظمة إنسانية. ولا يزال لتركة هذه السياسة المفصلية تأثيرها إذ تنعكس في سياسات الدول العربية تجاه اللاجئين الفلسطينيين، حتى حين تزعم هذه الدول دعمَها للقضية الفلسطينية.
ويبعث الوضع العام اليوم على المزيد من القلق لسببين إثنين، الأول هو عدم وجود حلٍ للنزاع السوري في الأفق؛ والثاني أنّ "الأونروا" التي كانت ترزح تحت وطأة العجز المزمن في ميزانيتها، تواجه حالياً مخططاً صهيو – أمريكي لتصفيتها إثر حملة تشنُّ منذ فترة طويلة داخل الولايات المتحدة ضد الوكالة الدولية، تصورها على أنها العقبة الرئيسية أمام (مفاوضات السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين) لأنها "تحفظ حقوق اللاجئين وهويتهم".
ويؤكد عدد كبير من الفلسطينيين المنغمسين في الوجع السوري، ممن التقيتهم قبل أيام معدودة في دمشق، أنّ الدائرة بدأت تضيق عليهم هنا، نظراً لضيق سبل العيش بعد فقدان أعمالهم ووظائفهم وتعرّض بيوت الكثير منهم للتدمير والنهب، ناهيك عن التدهور الخطير لمؤشرات التنمية البشرية والتضخم الرهيب أجور البيوت والأسعار الذي تجاوز الـ300%، زد على ذلك خطورة الأوضاع الأمنية وفقدان الشعور بالاستقرار والأمان جراء المعارك اليومية التي تشهدها العديد من المدن السورية.
والحقيقة أنّ تجربة الشعب الفلسطيني في دول اللجوء، من الأردن إلى لبنان وصولاً إلى تبعات حرب الخليج واحتلال العراق، وما حل باللاجئين الفلسطينيين في كل تلك المراحل، تجعلهم قلقين حيال ما يجري اليوم في سوريا، وما من فلسطيني هنا الآن إلا ولسان حاله يقول: "لم أمت ولكني أرى الموت بعينيّ كل يوم، وأتمناه في بعض الأحيان".