سوريا - بوابة اللاجئين الفلسطينيين
غسان ناصر
تعيش قرابة ستة آلاف عائلة فلسطينية نزحت عن مخيمات وتجمعات اللاجئين الفلسطينيين، التي تضررت جراء الحرب في دمشق وريفها إلى بلدة قدسيا ظروفاً معيشية قاسية، جراء عدة أسباب أبرزها ارتفاع تكاليف المعيشية من غلاء الأسعار الذي تضاعف في السنوات الخمس الأخيرة نحو 300% تزامناً مع انهيار العملة السورية أمام باقي العملات، إضافة إلى الشطط المبالغ فيه في إيجارات المنازل في المنطقة، ناهيك عن انتشار البطالة في صفوف اللاجئين الفلسطينيين خاصة من أبناء مخيم اليرموك، الذين يشكلون السواد الأعظم من التجمع الفلسطيني النازح.
ومما ضاعف معاناة الأهالي النازحة للبلدة حالة التضييق الأمني والملاحقة والانقطاع المتكرر للطرقات الواصلة بين قدسيا ومركز العاصمة دمشق، حيث تقوم حواجز جيش النظام بقطع جميع الطرقات أثناء أي توتر أمني سواء داخل قدسيا أو في أي منطقة بالعاصمة، الأمر الذي ينعكس سلباً على سكان البلدة ومن نزح إليها خصوصاً فيما يتعلق بتوفر المواد الأساسية من خبز وغذائيات ودواء ومحروقات وغيرها.
(بوابة اللاجئين الفلسطينيين) سلطت الأضواء في هذا التحقيق الاستقصائي على الواقع المعيشي لآلاف العوائل الفلسطينية التي بدأت بالنزوح إلى قدسيا منذ منتصف الشهر الأخير من العام 2012، فكانت بداية حديثنا مع الناشط أحمد حسين (رئيس مجموعة العمل من أجل فلسطينيي سورية)، وهي مجموعة إعلامية حقوقية تتخذ من لندن مقراً رئيسياً لها، وتنشط في عموم المخيمات والتجمعات الفلسطينية في سوريا منذ اشتعال الأحداث، من خلال شبكة من المراسلين المحليين، وبسؤالنا أولاً عن احصائيات المجموعة لتعداد النازحين الفلسطينيين إلى قدسيا؟ أجاب أحمد حسين قائلاً إن "أعداد اللاجئين الفلسطينيين في قدسيا يقدر حالياً بحوالي 10 آلاف فلسطيني سوري معظمهم من العائلات التي لجأت هرباً من القصف والحصار الذي طال مخيماتها في دمشق وريفها، وتشكل العائلات من مخيم اليرموك النسبة الأكبر منها".
وعن المعاناة اليومية للمهجرين قسراً من تجمعات سكناهم باتجاه قدسيا، قال إن "الفلسطينيين في هذه البلدة يعانون من مصاعب جمة تطال معظم أوجه حياتهم، في مقدمتها حالة التضييق الأمني التي أخذت منحىً مختلفاً منذ تطبيق اتفاق المصالحة مع قوات النظام وترحيل عناصر المعارضة المسلحة إلى شمال سوريا نهاية العام 2015، حيث تخضع البلدة الآن لسيطرة النظام بالكامل، ويخضع سكانها للفحص الأمني لدى أي تحرك منها وإليها ويتخلل ذلك التعرض للاعتقال في أي لحظة داخل أو خارج البلدة، فضلاً عن حملات السوق إلى الخدمة العسكرية التي تستهدف الشباب ممن تزيد أعمارهم عن 18 عاماً".
شلّ العمل الإغاثي ..
يشدد أحمد حسين على أن "حالة التضييق الأمني والملاحقة تسببت بشكل مباشر في شلّ العمل الإغاثي الذي كان نشيطاً خلال فترة الحصار السابقة للمصالحة، والتي استمرت لعامين ونيّف، ذلك أن الأجهزة الأمنية دأبت على ملاحقة النشطاء الإغاثيين وفبركة التهم المختلفة لهم من قبيل "دعم أسر المسلحين وتسهيل ممارسة مهامهم"، فكان أن توقف عمل هيئة فلسطين الخيرية بشكل شبه تام، وتقلص نشاط الهيئة الخيرية لدعم الشعب الفلسطيني إلى الحد الأقصى، ما ترك أثراً ثقيلاً جداً على الفلسطينيين النازحين من منازلهم، والذين فقد الكثير منهم مصادر الرزق جراء الحرب, كما سجلت في الفترة الاخيرة العديد من المشاكل الإدارية وشبهات الفساد حول بعض أعمال الإغاثة الجارية هناك".
وأكد أحمد حسين أن "أحد أشد أوجه المعاناة على الصعيد الإنساني للفلسطينيين هو الارتفاع الضخم في تكلفة إيجارات المنازل خصوصاً بعد إعادة فتح الطرقات بين البلدة وباقي المناطق التي تسيطر عليها قوات النظام حيث تضاعف الرقم نحو ثلاثة أضعاف، وهو ما يشكل تحدياً كبيراً إذا ما علمنا أن غالبية الفلسطينيين يعتمدون بشكل أساسي على المساعدات النقدية والعينية التي تقدمها وكالة (الأونروا)".
وبسؤاله عن الوضع الخدمي داخل البلدة، أجاب: "هناك ضعف شديد في الخدمات والبنى التحتية للبلدة، وجميع الخدمات الطبية والتعليمية تعمل بالحد الأدنى الذي لا يُعدُّ كافياً، وهو ما كان يضطر الكثيرين إلى المخاطرة بالخروج من البلدة أثناء التوترات الأمنية للحصول على الخدمات"، مضيفاً: "لقد برزت بشكل موازٍ أزمات متنوعة مثل المواصلات وتكلفتها المرتفعة المرتبطة بضعف حركة المرور وتلاعب السائقين بالأسعار بناء على الحاجة المرتفعة خصوصاً في أوقات الذروة لحركة الموظفين والطلاب".
وبيّن أحمد حسين أن "حال الفلسطينيين في منطقة قدسيا يشبه إلى حد كبير حال أقرانهم في مخيم خان الشيح واليرموك والبلدات المحيطة به، وهو ما يُعدُّ شكلاً غير سوي للاستقرار الأمني المزعوم بعد انتهاء الأعمال العسكرية بشكلها الخشن (قصف، تدمير، تجويع..)، وهو أمر يدعو إلى القلق خصوصاً وأن احتمالية وقوع أعمال انتقامية أو تصفية حسابات كما يمكن أن تسمى، هي واردة بشكل كبير إذا ما استقرت البقية الأخيرة من الجبهات المشتعلة حالياً كالغوطة الشرقية".
عليه فإن مصير الآلاف من الفلسطينيين، بحسب رئيس مجموعة العمل، "لا يزال يهدده خطر الاعتقال والاختفاء القسري والقتل، خاصة وأن التسويات الأمنية الممنوحة للأفراد الذين لهم "سوابق" سياسية/عسكرية مع المعارضة لا تخول أصحابها مغادرة البلاد إلى مكان آمن، ناهيك عن الاختراقات المتكررة لاتفاقيات المصالحة في أكثر من مكان، والتي لا تجد من يعترض عليها بحكم اختلال ميزان القوة".
ولفت أحمد حسين إلى أن أهالي مخيم اليرموك ممن نزحوا إلى قدسيا كانوا قد أطلقوا في أوقات سابقة، عشرات النداءات التي طالبوا فيها أن يتم رفع الحصار عن مخيماتهم وخصوصاً مخيم اليرموك حتى يتمكنوا من العودة إلى منازلهم.
معاناة 10 آلاف نازح فلسطيني..
تقع بلدة قدسيا في ريف دمشق الغربي على مقربة من نهر بردى، وهي شبه متصلة بمنطقة الهامة، ومقسمة بين عدة أحياء فهناك وسط البلدة والبساتين ويقطنها أهل قدسيا الأصليين، وهناك أحياء النازحين في الجنوب وهي مؤيدة للنظام، وأحياء الجمعيات والخياطين ويسكنها سوريون من كل الأطياف. وقد كانت بلدة قدسيا عدا حي النازحين خاضعة لسيطرة عناصر الجيش الحر، وهو في أغلبه من السكان الأصليين، وكان أن اقتحمتها الجيش النظامي في الشهر العاشر من العام 2012 فتعرضت لبعض الدمار بعد تراجع مجموعات من المعارضة السوريّة المسلّحة، ثم تم إبرام اتفاق مصالحة رجعت من خلاله تلك المجموعات للبلدة بشرط عدم وجود مظاهر مسلحة في صفوفها أو الاعتداء على أي شخص كان من سكان البلدة.
ويُعدُّ رفع إيجارات المنازل من قِبل أصحاب المنازل كل ستة أشهر تقريباً، الأزمة الأهم بالنسبة للعوائل النازحة، التي يوم لجأت لقدسيا كانت أجور المنازل فيها تتراوح بين 5 و7 آلاف ليرة، لتقفز فجأة إلى 25 ألف ليرة، ثم إلى ما بين 30 و40 ألف ليرة للمنزل دون فرش، وبين 60 و70 ألف ليرة للمنزل المفروش (كمعدل وسط).
وكانت دراسة اقتصادية محلية نشرت مؤخراً، أظهرت أن الحد الأدنى لتكاليف معيشة الأسرة في سوريا، يتجاوز 171 ألف ليرة شهرياً علماً أن متوسط الرواتب الشهرية لدى المواطنين والموظفين لا يتجاوز الأربعين ألف أي أقل من ربع كلفة معيشة الأسرة الواحدة شهرياً.
تدهور حالة التعليم ..
اللاجئ الفلسطيني سمير الصمادي، أحد سكان قدسيا من النازحين من اليرموك، يروي لـ(بوابة اللاجئين الفلسطينيين) فصولاً من معاناته اليومية التي بدأت منذ خمس سنوات، فيقول: "نزحت وعائلتي إلى قدسيا مع من نزح من أهالي المخيم كونها كانت مدينة رخيصة من حيث إيجارات المنازل حيث كان فيها عناصر من المعارضة السوريّة المسلّحة ومحاطة بإحكام من قِبل حواجز جيش النظام، ما جعل منها منطقة غير مرغوب الإقامة فيها من شريحة واسعة من مهجري اليرموك، وكان قد أقام بعض النازحين من ذوي الأوضاع الصعبة في مسجدي العمري والرحمن، وقامت (الأونروا) والهلال الأحمر الفلسطيني وعدد من مؤسسات وهيئات الإغاثة الفلسطينية، مثل الهيئة الخيرية لإغاثة الشعب الفلسطيني ومؤسسة جفرا للتنمية الشبابية وغيرها، بمد يد العون إليهم. ومع مرور الأيام وازدياد أعداد القادمين إلى قدسيا ازدادت معاناتنا حيث بدأ أصحاب المنازل برفع إيجارات المنازل".
ولا يغفل مُحدثنا أن يذكر كيف كانت الأوضاع متدهورة يوم كانت هناك اشتباكات وقصف متقطع على قدسيا، راح ضحيته العديد من المهجرين الفلسطينيين، فيقول: "في عام 2015 قامت قوات النظام بإغلاق كافة الطرق المؤدية إلى البلدة وأطبقت الحصار عليها مانعة الدخول والخروج إلا لموظفي الدولة والطلاب، كذلك قام النظام بقطع التيار الكهربائي عن البلدة بشكل شبه دائم، ومنع دخول المحروقات في فصل الشتاء ما دفع الكثيرين لشراء الحطب مع خطورة استعماله ومن ثم غلاء أسعاره، ما فاقم من معاناة الناس فاضطرت العديد من العوائل الفلسطينية النازحة إلى مغادرة البلدة. هذا طبعاً بالإضافة لشبح الاعتقال من طرفي الصراع (أي جيش النظام والمعارضة السوريّة المسلّحة)".
وعن حال المدارس وواقع التعليم في البلدة في ظل استمرار حالة النزوح، قال الصمادي: "لقد قامت وكالة (الأونروا) بافتتاح عدة مدارس في قدسيا لكن الدراسة فيها لم تكن يوماً منتظمة بسبب الحصار والاشتباكات المتقطعة بين الأطراف المتحاربة. كما كان الوضع مزرياً في فصل الشتاء خاصة مع موجات البرد القاسية وندرة المحروقات، ليجد الطلبة وأعضاء الأسرة التربوية أنفسهم يعيشون في واقع يفوق قدرة احتمالهم".
دعم النازحين في مراكز الإيواء..
بدوره تحدث المحامي (أ. س)، النازح أيضاً من اليرموك، والذي رفض الكشف عن هويته، هو الناشط في مجال الإغاثة في المخيم ومن ثم في بلدة قدسيا، عن واقع المعيشة في قدسيا وظروف عمل فرق الإغاثة بالبلدة، قائلاً: "أنشط ضمن فريق إغاثي يعمل تحت غطاء (حركة الجهاد الإسلامي) كمسمى فقط، غير أن الذي كان يمدنا بالدعم من غذاء وكساء ودواء وأهم الاحتياجات الأساسية للنازحين هم مجموعة من التجار الفلسطينيين الدمشقيين. وقد كنا نقدم في السنة الأولى من النزوح حوالي 1500 وجبة طعام يومياً، كما قدمنا نحن والأخوة في مؤسسة جفرا للإغاثة والتنمية الشبابية وغيرها من مؤسسات العمل الإغاثي في أكثر من مناسبة عدداً لا بأس به من السلل الغذائية والبطانيات والفرشات وكل ما كان يتوفر لنا من مساعدات عينية".
وبسؤاله عن واقع مراكز إيواء المهجرين بقدسيا، أجاب: أنه "منذ بدء محنة مخيم اليرموك وباقي المخيمات في ريف دمشق ونزوح الأهالي منها باتجاه قدسيا تم افتتاح عدة مراكز للإيواء داخل البلدة، منها المسجد العمري، وآخر كان يقع في طلعة قدسيا، كذلك كان هناك مركز في بناء نقابة المعلمين، الذي هو قيد الإنشاء والمكون من ستة طوابق، ومركز رابع حمل اسم "النزهة" في شارع بيروت بين بلدتي قدسيا والهامة، والذي تم إنذار من فيه لإخلائه قبل أربعة أشهر، وقد كانت (الأونروا) تتكفل بسداد مصاريف وأجور بعض هذه المراكز. أما اليوم فلم يعدّ في البلدة غير مركز إيواء واحد هو مركز "المهايني" المجاور للجامع العمري، وذلك بعد إخراج كافة النازحين من المراكز السابق ذكرها. وهناك عدة مؤسسات إغاثية تقدم ما أمكنها من مساعدات عينية أنشطة ترفيهية وتربوية، وهنا أذكر الدور الذي يقوم به مركز جفرا التعليمي بقدسيا، وهو مجمع تعليمي غير ربحي تابع لمؤسسة جفرا، ويهدف لتقديم الخدمات التعليمية لابناء العائلات الفقيرة وتخفيف الأعباء المادية المترتبة على عملية التحصيل العلمي.
أما المتطوعون العاملون في هذه المراكز فكان معظمهم من شباب مخيم اليرموك، وعملهم الرئيسي هو توزيع المساعدات الغذائية يومياً على القاطنين بمراكز الإيواء، وكذلك توزيع ما يتوفر من مساعدات عينية على منازل العوائل النازحة".
وحول الأنشطة التي تنظمها مؤسسات وهيئات الإغاثة الفلسطينية لمختلف الشرائح الاجتماعية من النازحين، قال (أ. س): إن الأنشطة متعددة وأذكر منها ما قام به مؤخراً فريق التنمية والتمكين المجتمعي في الهيئة الخيرية لإغاثة الشعب الفلسطيني، بالتعاون مع فريق الدعم النفسي في الهلال الأحمر الفلسطيني، في مركز يافا للتنمية الاجتماعية بالبلدة، حيث أقاموا عدة أنشطة ترفيهية إلى جانب إنجاز برنامج دعم نفسي لأطفال العائلات الفلسطينية النازحة. كذلك تقوم مؤسسة جفرا بالعديد من الأنشطة الترفيهية والفنية الموجهة للأطفال والشباب للتخفيف عنهم الآثار السلبية النفسية والاجتماعية التي يعيشون فصولها منذ بدء الأزمة السورية.