تحقيق: غسان ناصر

تواصل أمريكا ترامب خطواتها التصعيدية ضد وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، في سعيها الحثيث لتضييق الخناق على اللاجئين الفلسطينيين سواء من خلال ما يحصل في سوريا ولبنان أو الضفة الغربية المحتلة وقطاع غزّة المحاصر.

سعي ممنهج تقوده إدارة البيت الأبيض ومن خلفها كيان الاحتلال، الغاية منه هو الضغط على الوكالة الأممية، أهم مقدم خدمات للاجئين الفلسطينيين، وصولاً إلى محوها من الوجود، دون أي اكتراث لأحوال اللاجئين في الشتات والمنافي البعيدة وفي الضفة الغربية وقطاع غزّة.

فلسطينيو سوريا، الذين يعيشون فصول أكبر مقتلة في العصر الحديث، منذ سبع سنوات، حالهم كحال أهلنا في غزّة ولبنان، يمضي دوماً من سيء إلى أسوأ، خاصة في ظلّ هذه الظروف المأساوية التي يعيشها اللاجئ الفلسطيني في سوريا، ومع غياب أي مرجعية وطنية سياسية، ومحاولات إدارة الوكالة الدولية التملص من التزاماتها تجاه نحو نصف مليون لاجئ فلسطيني سوري، قبل وبعد محو مخيم اليرموك –عاصمة الشتات الفلسطيني- ودمار أكثر من 70% من عمرانه، وإلحاق أضرار كبيرة في العديد من المخيمات في دمشق وريفها، وفي شمال البلاد وجنوبها. ويشكو عموم اللاجئين هنا من شح المعونات المالية، وتراجع الخدمات الطبية، عدا عن أن معظم مدارس (الأونروا) في الأراضي السورية صارت خراباً. 

واقعٌ أقل ما يقال عنه بالنسبة إلى الفلسطينيين السوريين إنه كارثي، ذلك أن معظم من يعيل هذه العائلات خاصة من أبناء المخيمات لم يكن لهم أعمال قارة، والسواد الأعظم منهم كان يعتمد في توفير رزقه على العمل اليومي كبائعين جوالين في أسواق الخضار أو في محلات المأكولات أو يملكون بسطات في الأسواق الموازية، وحتى شريحة الموظفين لم يعد معظمهم قادراً على توفير تكلفة قوته فمرتبه الشهري من القطاع العام لا يتجاوز المائة دولار تقريباً، ومن يعمل بالقطاع الخاص يحصل على ضعف هذا المبلغ أو أكثر بقليل، فكيف لهؤلاء أن يعيشوا حياة كريمة إذا ما عرفنا أن أكثر من 80% منهم يدفعون إيجارات بيوتهم منذ 5 سنوات _عمر نزوحهم من مخيم اليرموك وغيره من المناطق الساخنة- وهذا الإيجار يأخذ جلّ رواتبهم حيث يصل إيجار البيت في دمشق العاصمة ما بين 120 إلى 180 ألف ليرة، وفي ريفها ما بين الـ 40 إلى الـ 70 ألف ليرة ويزيد، وهو ما يعني أن راتب الموظف كاملاً لا يكفي لأجرة بيت يأوي عائلته! فمن أين يؤمن هؤلاء معيشتهم ويوفرون احتياجات الحياة ومتطلباتها؟

العيش في واقع تحت الصفر 

الجواب يأتينا على لسان السيد "أبو عدي سلام"، الذي التقيناه في مقهى "الكمال" في منطقة البرامكة بالعاصمة، والذي أجاب لموقع بوابة اللاجئين عن سؤالنا "كيف هي حياته اليوم بعد تغريبتنا الثانية من مخيم اليرموك، وفي ظلّ ما يشاع من وقف (الأونروا) للمعونات المالية؟"، "منذ هُجرنا قسراً من مخيم اليرموك قبل خمس سنوات ونحن نعاني الأمرين، ولولا وجود ابن لي بأبوظبي لكان وضعي تحت الصفر فأنا أعيل أسرتي المكونة من سبعة أفراد، أجرة البيت ومصاريف المعيشة تتجاوز قدرتي بكثير، رغم أني أعمل أنا وابنتي الكبيرة وابني موظف بمعمل تابع لشركة إلكترونيات خاصة، ومع ذلك رواتبنا الثلاثة لا تكفي لأسبوعين فقط بعد دفع أجرة البيت وفواتير الكهرباء والماء والهاتف، ونعول على ما يرسله ابني البكر من الخارج".

يضيف "أبو عدي": "لا أخفيك أنا اعتمد في معيشتي على (الأونروا) فالطبابة دائماً في مستوصفاتها وفي "مشفى يافا" التابع لها بدمشق، وكذلك دراسة أولادي في المرحلتين الإبتدائية والإعدادية بمدارس الوكالة البديلة بعد دمار معظم مدارسها في المخيمات. كانت المعونة التي تدفع لنا كل شهرين تسد أشياء كثيرة من احتياجاتنا قبل أن (يقصفوا عمرها) فآخر مرة كانت حصة الفرد (20 ألف ليرة فقط) فيما كانت في السابق ضعف هذا المبلغ تقريباً. دائماً يقتطعون منها بلا أي مبرر ولا يمكننا مراجعتهم، أصلاً لا توجد مرجعية لأنك إن سألت يقولون لك: "اسأل فوق بالرئاسة"، ومن يذهب ليسأل لا يلقى جواباً". 

يختم مُحدثنا قائلاً: "رضينا بالهم والهم ما رضي فينا.. هاد حالنا اليوم بالشام ولو سألت أي إنسان الآن عن أحواله سيقول لك ما ضل عنا أمل بشي، والجميع هنا ينتظر اليوم خبراً من رئاسة (أونروا) يبشرهم بقرار صرف معونة مالية قبل بدء الموسم الدراسي".

لسان الحال: ما إلنا غير الله 

أزمات الفلسطينيين والسوريين في سوريا متشابهة والمصائب لا تفرق بين فلسطيني سوري وسوري من أبناء البلد، ومن يعرف البلاد قبل سبع سنوات ويراها اليوم يدرك حجم الكارثة، آلاف العائلات نازحة بلا مأوى وهي بأمس الحاجة لبيوت تأويها، بيوت ارتفعت آجارها من 4 إلى 6 أضعاف، زد على ذلك التهاب أسعار الغذاء والدواء ومستلزمات الحياة، طبعاً مع الاستغناء عن الكماليات والرفاهية، ومع استمرار تدهور الأوضاع الاقتصادية وانهيار الليرة السورية وتفشي البطالة ومحدودية دخل الفرد.

ووفقاً لتصريح أطلقه (برنامج الأغذية العالمي)، في منتصف نيسان/ أبريل المنصرم، فإن "ثلاثة سوريين من أصل عشرة لا يعرفون من أين سيحصلون على وجبتهم اليومية".  وبحسب (صندوق الأمم المتحدة للسكان) أيضاً، يبلغ متوسط تكاليف الغذاء لأسرة تتكون من 4 أو 5 أفراد، 80 ألف ليرة سورية، أي أقل من رواتب القطاع العام التي تتراوح ما بين 35 و 60 ألف ليرة سورية شهرياً.

الحاجة "أم أسامة خلايلة" مهجرة من مخيم السبينة، تقول لـ(البوابة): "حياتنا منذ منذ بدأت الحرب جحيم بكل ما تعنيه هذه الكلمة، أنا فقدت ابني منذ 4 سنوات -كان عمره يومها 27 سنة-، ولا أعرف ما هو مصيره حتى يومنا هذا. لقد سألت كثيراً في كل مكان وما خليت جهة أمنية ما رحت وسألتها، حدا بقلي إنه قتل وحدا بيقول إنه معتقل وحدا خبرني أنه مخطوف، والله ما عدت عرفت عنه أي خبر وبانتظار رحمة ربي، وإن شاء الله يرده لحضني سالم". تتابع الحاجة "أم أسامة" قائلة، ودموعها على الخدين، "حياتي بعده لا تطاق. كان هو المعيل لي ولأخواته الثلاثة بعد وفاة أبوهم. اليوم لولا أولاد الحلال اللي بيعرفوا قصتي وبودوني لكنت بعوز شديد، وكمان لولا الوكالة اللي بتعطيني اعاشة، وكل شهرين/ ثلاثة معونة مالية بدبر حالي فيها". تضيف الحاجة "أم أسامة": "ابن عمي الله يستر عليه بالسعودية عنده شقة بدمر البلد أعطاني إياها لأسكن فيها حتى نرجع ع بيوتنا بالسبينة، والله أنا لهلأ ما قدرت أرجع لأن ظروف الحياة مازالت غير آمنة بالمخيم وفي كتير نواقص".

وبسؤالها عن ما يشاع بين الفلسطينيين في سوريا اليوم بخصوص وقف المعونات المالية، قالت مُحدثتنا: "ما إلنا غير الله وهو الكريم، ولازم يكون في ناس عارفة أن كثير منا بأمس الحاجة لهذا المبلغ لأنه على قلته يسد بعض احتياجاتنا. وأنا من زمان بسمع كل فترة وفترة أن (الأونروا) مش رح تدفع شيء بهالفترة وبعدين بيدفعوا، برجع بقلك ما إلنا غير الله يا خوي".  

عجز بالمصاريف يفوق الخيال..

موقع "الاقتصادي" السوري، أشار قبل أيام، إلى أن الأسرة المكونة من 5 أفراد في سوريا تحتاج إلى نحو 240 ألف ليرة سورية (أي ما يعادل 500 دولار تقريباً)، أما خلال  آب/ أغسطس الجاري، فالأمر يختلف إذا ما أخذنا بعين الاعتبار النفقات الإضافية التي تدخل على خط الأولويات ممثلةً بمصاريف تأمين مونة الشتاء، وعيد الأضحى ومصروف المدارس، لترتفع تكاليف المعيشة الإجمالية للأسرة في هذا الشهر إلى حوالي 500 ألف ليرة (ما يعادل 1100 دولار)! في وقت لا يزيد دخل معظم الأسر السورية والفلسطينية السورية عن 60 إلى 70 ألف ليرة (ما يعادل 150 دولار تقريبا) ما يعني عجزاً بالمصاريف وصل في هذا الشهر إلى أكثر من 430 ألف ليرة (قرابة ال 950 دولار)، وهو عجز يفوق الخيال، ومؤشر كبير على ما تعانيه الأسر بسوريا من عوز شديد.

سؤالنا ذاته حملناه إلى قدسيا، ووجهناه للحاجة "أم خالد العمري"، فقالت بعصبية: "يعني بدهم يتركونا للخراب والدمار والموت، ما بيكفي أنه ما عاد إلنا بيوت ولا مخيم بعد ما أولاد الحرام دمروا اليرموك".

تتابع "أم خالد" بحسرة: "أنا وزوجي وبناتي الخمسة ما قادرين نعيش واحنا عم نشتغل ونعيش كل يوم بيومه، ومبلغ الوكالة تاركينه لأجرة البيت الصغير اللي مستأجرينه هون ولولا صاحب البيت مش ابن حلال وبياخد منا بس 15 ألف ليرة أجرة هالغرفة والصالون الصغير من أول ما نزحنا لكان حالنا بالويل وشحدنا، راتب أبو خالد في محل الفروج 40 ألف ليرة وأنا وبناتي منشتغل مع جارنا الخضري بالمونة للناس وكل أسبوع بيطلعلنا مبلغ منخصصه لأكلنا وشربنا.. هو صحيح مبلغ الوكالة مش كبير بس والله بعينا على تأمين كتير أغراض منحتاجها زي الملابس اللي صارت بالبالة أغلى من اللي بالمحلات، آخر إشي بحب أقوله بهيك أحوال: نحمد الله ع كل شيء ومنقول للمسؤولين بالوكالة فيكن وبلاكن عايشيين".

كارثة حقيقية في ظلّ غياب المرجعية ..

قبل سنوات كنت تسمع عند سؤالك لأحدهم كيف الأحوال؟ إجابة نابعة من القناعة والرضا، "مستورة والحمد لله"، أما اليوم فلم تعد كلمة "مستورة" كافية للتعبير عن حجم الأزمة المادية التي يعيشها أبناء البلد عموماً، فالفقر لا بل والعوز الشديد وصلا إلى مستويات غير مسبوقة. 

هذا ما يؤكده الشاب اللاجئ الفلسطيني "عصام الشيخ يونس" (30 سنة)، يعمل في مؤسسة حكومية، حيث يقول: "منذ أن هُجرت من مخيم اليرموك في 16/12/ 2012 صارت الحياة صعبة جداً، ولأنها سنة الحياة تزوجت قبل ثلاث سنوات، وزوجتي تعمل بالقطاع الخاص بشركة صرافة، وبعد عام من الزواج رزقنا الله طفلاً، وبين مصاريفه في سنته الأولى وأجرة المنزل وأقساط العفش يذهب راتبنا قبل نهاية الشهر بعشرة أيام، وليس لنا أي مصدر مالي آخر غير معونة (الأونروا) التي تلاحقها دائماً إشاعات وقفها من جهة، وتقليص المبلغ مرة بعد مرة علماً أن ما أعرفه هو أن لكل فرد 40 دولار شهرياً وكان يجب أن تصرف كل شهرين بانتظام أي كل دفعة ما يعادل ال (80 دولار) تسلم بالليرة وفقاً لسعر البنك المركزي، لكن هذا لم يحصل إطلاقاً وليس بالإمكان مراجعة أي جهة في إدارة (أونروا) بسوريا، ولا توجد مرجعية رسمية فلسطينية معنية بالمتابعة".

يتابع "عصام" كلامه: "ما يحدث في ظلّ غياب مرجعية وطنية فلسطينية سيقودنا إلى كارثة حقيقية. هناك عائلات السلة الغذائية والمعونة المالية هي المصدر الرئيسي لإعالتهم، ولا ينجو من هذه المعاناة إلا من له ابن أو أخ أو قريب في الخارج سواء في أوروبا ممن ركبوا البحر أو في دول الخليج، حالنا ببكي الحجر". 

طريق مسدود ولا أمل في فرج قريب 
معظم السوريين ومن في حكمهم يعانون اليوم عدم كفاية دخلهم الشهري، وعجزه عن تغطية المتطلبات الأساسية للمعيشة، هذا في حال كان الشخص محظوظاً، ولديه فرصة عمل. ومن يعيش في أوساط الفلسطينيين في تجمعاتهم في ما تبقى من مخيمات يمكن العيش فيها، أو في تجمعاتهم الرئيسية في قدسيا وضاحيتها ودمر البلد وركن الدين وصحنايا والجديدة والزاهرة القديمة والجديدة وبرزة، يعلم جيداً أن معظم هؤلاء بأمس الحاجة لمعونة الوكالة الدولية، على قلتها، وفي ظلّ غياب أي سند فلسطيني، إن كان سلطتي الأمر الواقع في الضفة الغربية وقطاع غزّة، أو الصندوق القومي الفلسطيني التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية، والذي وضع الرئيس محمود عباس يده عليه مؤخراً، وجعل تسييره من صلاحياته، ولا من أي فصيل فلسطيني في سوريا أو خارجها.

حالٌ وصلنا معه إلى طريق مسدود ولا أمل في فرج قريب، وهو ما عبر عنه الحاج "أبو رائد حمادة" (72 سنة)، من مهجري مخيم اليرموك، الذي اكتفى بالقول عند سؤالنا له حول معاناته المعيشية في ظلّ الحالة الراهنة والحديث عن أزمة وكالة الغوث، "والله يا عمي زي ما بيقول المثل عنا (أكثر من القرد ما سخط الله)، وطول عمرنا مشحرين من نكبة 48 لحدّ اليوم وما فيش من يرحمنا بهالأرض والفرج من عند ربك الكريم".

فيما قال السيد "أبو سميح منصور"، يعمل بمول تجاري بمنطقة المزة، ولديه ستة أولاد تتراوح أعمارهم بين 19 سنة وسبع سنوات، "ربنا يلعن الحاجة والعوز ويقدرنا على هذه الحياة الصعبة بدون وكالة ولا منظمة تحرير ولا حدا من هالفصائل اللي أكيد كان رح يكون حالنا أفضل بلاها".

يضيف " أبو سميح": "منذ متى نعتمد على معونات مالية من (الأونروا) بس هي الحرب اللي أكلت الأخضر واليابس وخلتنا نحتاج المعونات، أنا عندي 6 ولاد بنتين و4 أطفال، اليوم (27 الشهر) صدقني ما في بالبيت 1000 ليرة (أقل من 3 دولار)، والله مو عارف كيف بدها تتدبر، مصاريف المعيشة بالشهر وأجرة البيت ومصاريف العيد من حلو وملابس ما خلت بجيوبنا شيء، على الرغم أني أتقاضى مرتب جيد وكذلك زوجتي، ومع ذلك الوضع صعب فكيف سنؤمن مصاريف العودة المدرسية، نحتاج إلى 150 ألف ليرة لتأمين حاجيات عودة الأولاد السته للمدارس، وليس أمامي، إن لم تصرف معونة الوكالة قريباً، غير السلف وهذا يؤلمني فالحاجة للناس صعبة وفيها كسرة نفس".

ينهي أبو سميح كلامه قائلاً: "نحن اليوم بلا مرجعية لا سلطة ولا منظمة ولا (أونروا) ولا حدا يسأل بأحولنا في سوريا للأسف الشديد".

في الختام لا يبقى لنا إلا القول إن أزمة وكالة الغوث في تفاقم يوماً بعد يوم، خاصة بعد قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، يوم الجمعة الماضي، المتعلق بإيقاف مساعدات للفلسطينيين بأكثر من 200 مليون دولار، ما يعني عجز وكالة (الأونروا) في أجل قريب، عن تقديم خدماتها لنحو 5.9 مليون لاجئ فلسطيني، منهم ما يقارب النصف مليون لاجئ فلسطيني سوري، هاجر منهم نحو 150 ألف نسمة في السنوات الخمس الأخيرة، ومعظم هؤلاء ممن بقي هنا سيبقى القلق والهم اليومي يؤرقهم، طالما الطريق إلى حياة كريمة صار حلماً يراود اللاجئ الفلسطيني في سوريا النازفة.
خاص - بوابة اللاجئين الفلسطينيين

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد