وسام سباعنة*
سبعة أشهر مرت على انطلاق المسيرات الشعبية التي دعت إليها الهيئة العليا لرفض الحصار الإسرائيلي المتواصل منذ عقد على قطاع غزة، وتثبيتاً لحق اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى ديارهم التي هجروا منها قبل سبعين عاماً.
ظهرت في التظاهرات التي بدأت في ذكرى يوم الأرض (30 آذار ــــ مارس 2018) وتعاقبت على مدار أيام الجمعة من كل أسبوع، فضلاً عن الفعاليات المساندة، أشكال نضالات متعددة ورفعت شعارات تضج بالمعاناة الفلسطينية المتفاقمة، ليس آخرها شعار «جمعة غزة تنتفض والضفة تلتحم»، والتي جاءت على وقع تحركات متنامية في الضفة الفلسطينية. وقد قدّم الغزيون في المسيرات وخلال المواجهة مع جنود الاحتلال أكثر من مئتي شهيد وأكثر من واحد وعشرين ألف جريح.
يسجّل لشباب مسيرات العودة وكسر الحصار ذلك الإبداع في النشاط المقاوم، من قبيل إطلاق الطائرات الورقية والبالونات الحارقة، ثم أسلوب الإرباك الليلي، ليسطّروا معادلة جديدة، حلت فيها هذه الوسائط الإبداعية البسيطة محل الصواريخ والبنادق، حتى بتنا نسمع أن وزراء حكومة الاحتلال يقايضون الرفع الجزئي للحصار عن غزة، بوقف هذه النشاطات وخاصة البالونات الحارقة ونشاطات الإرباك الليلي.
عند هذه النقطة التي صارت فيها مسيرات العودة والأنشطة المرافقة لها جزءاً من معادلة الصراع مع الاحتلال، صعدت حكومة الاحتلال وأطراف أخرى من اتهام حركة حماس، والفصائل الشريكة لها (الجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية) بتنظيم الاحتجاجات لتوفير ستار لشن هجمات وصرف الانتباه عن الأزمة الاقتصادية في القطاع، بلهجة وصلت إلى التلويح بالحرب، وهو ما نفته حماس والفصائل، مؤكدة على أمرين: حق الشعب الفلسطيني في المقاومة، وحقه في ممارسة كل أشكال الكفاح من أجل رفع الحصار الظالم عنه.
لمرات عديدة وقفت غزة على حافة الحرب، وحالت تدخلات متعددة فضلاً عن عدم رغبة أحد في معركة جديدة في تأجيل الانفجار الكبير، ولكن المتوقع في كل لحظة، فقد يكون على شكل تدحرج في الأحداث، أو عن طريق رغبة الاحتلال في كسر المعادلة القائمة.
تصاعد التهديدات والتساؤلات
في الآونة الأخيرة، تصاعدت نبرة التهديدات الإسرائيلية لغزة. قيل إن وفوداً عربية ودولية نقلت إلى حماس والفصائل في غزة تحذيرات إسرائيلية بحرب واسعة النطاق إن لم تتوقف مسيرات العودة، أو في أقله إن لم تتوقف الأنشطة المصاحبة لها، من إطلاق بالونات حارقة، وقص الشريط الشائك لمواجهة جنود الاحتلال مباشرة. هنا، عاد البعض ليطرح من جديد أسئلة عن جدوى هذه المسيرات، متجاهلاً أنها أعادت المشهد الفلسطيني إلى الواجهة وضخت دماً جديداً في شرايين القضية الفلسطينية الحية، ومدعياً كما راج الكلام منذ البداية أنها تصب في خدمة حركة حماس.
التساؤل عن جدوى المسيرات هو الذي يمكن اعتباره سؤالاً في غير محله
بداية، لا يريد هذا المقال الدفاع عن أي طرف فلسطيني. لدينا الكثير من الملاحظات والتساؤلات حول سلوكيات الفصائل ومن بينها بالتأكيد حماس. كذلك فإن كل قوة سياسية تعمل بشكل طبيعي على توظيف معطيات كي تصب في رصيدها، وتقوم باستخدامها إن أتيحت لها فرصة الاستخدام. ولكن التساؤل عن جدوى المسيرات هو الذي يمكن اعتباره سؤالاً في غير محله، أما الحديث عن وقفها مقابل مكاسب محدودة لهذا الطرف أو تلك الجهة فيرقى إلى مرتبة الخطيئة الوطنية الكبرى.
في النصوص المصاحبة لصيغة توقف المسيرات مقابل تخفيف قيود الحصار المشددة، يعود الحديث عن المصالحة الفلسطينية من جديد. لكن الحديث عن المصالحة صار «أولد فاشن» أو انتهت موضته بالنسبة إلى أبناء شعبنا الذين أملوا كثيراً بانتهاء مهزلة الانقسام، ولو أن ما تتناقله ألسن الفصائل يقول إننا بخير ونسير إلى الحياة الوردية التي تفصلنا عنها مسافة أمل ومقاومة، ولذلك يمضغون مزيداً من الكلام حول المصالحة المنشودة التي لا تتحقق. فلا حماس لديها الرغبة في أن تمشي قدماً في حكومة الوفاق الوطني، لأسباب مالية تخشى معها أن تعجز عن دفع الرواتب لموظفيها كما لعسكرها، الذين ترفض السلطة تمويلهم، ولا السلطة تملك غير خيار التهديد والعقوبات وممارسة مزيد من الضغوط على حماس في غزة، ودفعها نحو التسليم بكل شيء. لا نية لاستئناف الحوار لدى منظمة التحرير كما لدى حماس، ولو أن الخطاب الإعلامي أكثر تفاؤلا. شركاء في الوطن لا يقبلون بالشراكة ويتصرفون بفردية أنتجت واقعاً يقارب الاحتلال مأسوية.
وإذا كان استعراض الخيارات المتوفرة أمام فصيلي الانقسام وتوابعهما، يظهر البيت الفلسطيني آيلاً إلى السقوط، وإعادة ترتيبه تحتاج إلى ثورة شعبية لا تقل حماسة عن مسيرات العودة وكسر الحصار، فإن من المهم والضروري البحث في خيارات أخرى.
المسيرات والانتفاضة
بالمنطق البسيط، فإن المسيرات التي تحدث كل هذا التأثير على دولة الاحتلال يجب أن تشهد تصعيداً هادفاً إلى مزيد من الضغط على الاحتلال، ليس من أجل حلول مؤقتة ومكاسب محدودة، أو تقديم نيات سلمية تجاه عدو غير آبه أصلاً، ويتعامل مع التنازل الفلسطيني الحاصل منذ اتفاقية أوسلو على أنه ناجم عن واقع هزيمة ويبني على ذلك الكثير من خياراته وتصرفاته. وليس المطلوب من هذا الحراك الشعبي المبدع نتائج تصنع فرقاً بسيطاً في العيش المتهالك في غزة، والفاقد كل مقومات الإنسانية على مرأى من الحقوقيين والمناهضين للحروب والداعين إلى سلام الكوكب، بل إننا نستطيع اليوم تغيير الكثير من المعادلات. نقدم الشهداء والجرحى أسبوعياً، بل كل يوم، ولكننا نصنع الفرق حقاً. والشعب الفلسطيني الذي يقتات الأمل، ويركن إلى زوادة من الحجر والإطارات المشتعلة، ويبرع في صوغ شعاراته النضالية، لن يترك لقادته حصاد الفدية من هذا الموت المديد. هو لا يحتاج إلى التهدئة يا سادة، بل إلى العودة إلى الثوابت التي تعيده بدورها إلى الوطن، وتعيد الوطن إلى الخريطة.
إن الاعتراف بالحقوق الوطنية وحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير والعودة والحرية تعادله تضحيات كبيرة وأثمان باهظة. حتى اللحظة، يتفرد الشعب بفاتورتها، غير آبه حتى اللحظة بمن يراهنون على تفاوض وصفقات، ولا بمن وقعوا في التباس ثنائية دولة الوهم وواجباتها، والمقاومة والتزاماتها وأثمانها.
مع التضحيات الكبيرة، فإن إحداث تغيير كبير هو شديد الإمكان، فمن حق شعبنا كسر الحصار، بل هو هدف يجب أن يتحد الجميع من أجله، وحتى أن يكف القريبون والبعيدون عن النفاق ومحاولة الاستثمار في رفع الحصار مقابل تنازلات تنهي قضية شعبنا. حين نتحدث عن الإمكان، نعني استمرار مسيرات العودة وفعالياتها مصحوبة بانتفاضة شعبية في الضفة، وتضامن الشعب الفلسطيني خارج فلسطين مع إخوته داخلها ليست معجزة، ولكنها ممكن كبير حين يغادر الجميع مربع الأوهام، والاستثمارات قصيرة المدى.
*مدير مؤسسة جفرا للإغاثة والتنمية الشبابية
سبعة أشهر مرت على انطلاق المسيرات الشعبية التي دعت إليها الهيئة العليا لرفض الحصار الإسرائيلي المتواصل منذ عقد على قطاع غزة، وتثبيتاً لحق اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى ديارهم التي هجروا منها قبل سبعين عاماً.
ظهرت في التظاهرات التي بدأت في ذكرى يوم الأرض (30 آذار ــــ مارس 2018) وتعاقبت على مدار أيام الجمعة من كل أسبوع، فضلاً عن الفعاليات المساندة، أشكال نضالات متعددة ورفعت شعارات تضج بالمعاناة الفلسطينية المتفاقمة، ليس آخرها شعار «جمعة غزة تنتفض والضفة تلتحم»، والتي جاءت على وقع تحركات متنامية في الضفة الفلسطينية. وقد قدّم الغزيون في المسيرات وخلال المواجهة مع جنود الاحتلال أكثر من مئتي شهيد وأكثر من واحد وعشرين ألف جريح.
يسجّل لشباب مسيرات العودة وكسر الحصار ذلك الإبداع في النشاط المقاوم، من قبيل إطلاق الطائرات الورقية والبالونات الحارقة، ثم أسلوب الإرباك الليلي، ليسطّروا معادلة جديدة، حلت فيها هذه الوسائط الإبداعية البسيطة محل الصواريخ والبنادق، حتى بتنا نسمع أن وزراء حكومة الاحتلال يقايضون الرفع الجزئي للحصار عن غزة، بوقف هذه النشاطات وخاصة البالونات الحارقة ونشاطات الإرباك الليلي.
عند هذه النقطة التي صارت فيها مسيرات العودة والأنشطة المرافقة لها جزءاً من معادلة الصراع مع الاحتلال، صعدت حكومة الاحتلال وأطراف أخرى من اتهام حركة حماس، والفصائل الشريكة لها (الجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية) بتنظيم الاحتجاجات لتوفير ستار لشن هجمات وصرف الانتباه عن الأزمة الاقتصادية في القطاع، بلهجة وصلت إلى التلويح بالحرب، وهو ما نفته حماس والفصائل، مؤكدة على أمرين: حق الشعب الفلسطيني في المقاومة، وحقه في ممارسة كل أشكال الكفاح من أجل رفع الحصار الظالم عنه.
لمرات عديدة وقفت غزة على حافة الحرب، وحالت تدخلات متعددة فضلاً عن عدم رغبة أحد في معركة جديدة في تأجيل الانفجار الكبير، ولكن المتوقع في كل لحظة، فقد يكون على شكل تدحرج في الأحداث، أو عن طريق رغبة الاحتلال في كسر المعادلة القائمة.
تصاعد التهديدات والتساؤلات
في الآونة الأخيرة، تصاعدت نبرة التهديدات الإسرائيلية لغزة. قيل إن وفوداً عربية ودولية نقلت إلى حماس والفصائل في غزة تحذيرات إسرائيلية بحرب واسعة النطاق إن لم تتوقف مسيرات العودة، أو في أقله إن لم تتوقف الأنشطة المصاحبة لها، من إطلاق بالونات حارقة، وقص الشريط الشائك لمواجهة جنود الاحتلال مباشرة. هنا، عاد البعض ليطرح من جديد أسئلة عن جدوى هذه المسيرات، متجاهلاً أنها أعادت المشهد الفلسطيني إلى الواجهة وضخت دماً جديداً في شرايين القضية الفلسطينية الحية، ومدعياً كما راج الكلام منذ البداية أنها تصب في خدمة حركة حماس.
التساؤل عن جدوى المسيرات هو الذي يمكن اعتباره سؤالاً في غير محله
بداية، لا يريد هذا المقال الدفاع عن أي طرف فلسطيني. لدينا الكثير من الملاحظات والتساؤلات حول سلوكيات الفصائل ومن بينها بالتأكيد حماس. كذلك فإن كل قوة سياسية تعمل بشكل طبيعي على توظيف معطيات كي تصب في رصيدها، وتقوم باستخدامها إن أتيحت لها فرصة الاستخدام. ولكن التساؤل عن جدوى المسيرات هو الذي يمكن اعتباره سؤالاً في غير محله، أما الحديث عن وقفها مقابل مكاسب محدودة لهذا الطرف أو تلك الجهة فيرقى إلى مرتبة الخطيئة الوطنية الكبرى.
في النصوص المصاحبة لصيغة توقف المسيرات مقابل تخفيف قيود الحصار المشددة، يعود الحديث عن المصالحة الفلسطينية من جديد. لكن الحديث عن المصالحة صار «أولد فاشن» أو انتهت موضته بالنسبة إلى أبناء شعبنا الذين أملوا كثيراً بانتهاء مهزلة الانقسام، ولو أن ما تتناقله ألسن الفصائل يقول إننا بخير ونسير إلى الحياة الوردية التي تفصلنا عنها مسافة أمل ومقاومة، ولذلك يمضغون مزيداً من الكلام حول المصالحة المنشودة التي لا تتحقق. فلا حماس لديها الرغبة في أن تمشي قدماً في حكومة الوفاق الوطني، لأسباب مالية تخشى معها أن تعجز عن دفع الرواتب لموظفيها كما لعسكرها، الذين ترفض السلطة تمويلهم، ولا السلطة تملك غير خيار التهديد والعقوبات وممارسة مزيد من الضغوط على حماس في غزة، ودفعها نحو التسليم بكل شيء. لا نية لاستئناف الحوار لدى منظمة التحرير كما لدى حماس، ولو أن الخطاب الإعلامي أكثر تفاؤلا. شركاء في الوطن لا يقبلون بالشراكة ويتصرفون بفردية أنتجت واقعاً يقارب الاحتلال مأسوية.
وإذا كان استعراض الخيارات المتوفرة أمام فصيلي الانقسام وتوابعهما، يظهر البيت الفلسطيني آيلاً إلى السقوط، وإعادة ترتيبه تحتاج إلى ثورة شعبية لا تقل حماسة عن مسيرات العودة وكسر الحصار، فإن من المهم والضروري البحث في خيارات أخرى.
المسيرات والانتفاضة
بالمنطق البسيط، فإن المسيرات التي تحدث كل هذا التأثير على دولة الاحتلال يجب أن تشهد تصعيداً هادفاً إلى مزيد من الضغط على الاحتلال، ليس من أجل حلول مؤقتة ومكاسب محدودة، أو تقديم نيات سلمية تجاه عدو غير آبه أصلاً، ويتعامل مع التنازل الفلسطيني الحاصل منذ اتفاقية أوسلو على أنه ناجم عن واقع هزيمة ويبني على ذلك الكثير من خياراته وتصرفاته. وليس المطلوب من هذا الحراك الشعبي المبدع نتائج تصنع فرقاً بسيطاً في العيش المتهالك في غزة، والفاقد كل مقومات الإنسانية على مرأى من الحقوقيين والمناهضين للحروب والداعين إلى سلام الكوكب، بل إننا نستطيع اليوم تغيير الكثير من المعادلات. نقدم الشهداء والجرحى أسبوعياً، بل كل يوم، ولكننا نصنع الفرق حقاً. والشعب الفلسطيني الذي يقتات الأمل، ويركن إلى زوادة من الحجر والإطارات المشتعلة، ويبرع في صوغ شعاراته النضالية، لن يترك لقادته حصاد الفدية من هذا الموت المديد. هو لا يحتاج إلى التهدئة يا سادة، بل إلى العودة إلى الثوابت التي تعيده بدورها إلى الوطن، وتعيد الوطن إلى الخريطة.
إن الاعتراف بالحقوق الوطنية وحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير والعودة والحرية تعادله تضحيات كبيرة وأثمان باهظة. حتى اللحظة، يتفرد الشعب بفاتورتها، غير آبه حتى اللحظة بمن يراهنون على تفاوض وصفقات، ولا بمن وقعوا في التباس ثنائية دولة الوهم وواجباتها، والمقاومة والتزاماتها وأثمانها.
مع التضحيات الكبيرة، فإن إحداث تغيير كبير هو شديد الإمكان، فمن حق شعبنا كسر الحصار، بل هو هدف يجب أن يتحد الجميع من أجله، وحتى أن يكف القريبون والبعيدون عن النفاق ومحاولة الاستثمار في رفع الحصار مقابل تنازلات تنهي قضية شعبنا. حين نتحدث عن الإمكان، نعني استمرار مسيرات العودة وفعالياتها مصحوبة بانتفاضة شعبية في الضفة، وتضامن الشعب الفلسطيني خارج فلسطين مع إخوته داخلها ليست معجزة، ولكنها ممكن كبير حين يغادر الجميع مربع الأوهام، والاستثمارات قصيرة المدى.
*مدير مؤسسة جفرا للإغاثة والتنمية الشبابية
جريدة الأخبار