إيمان العبد
بعد أيّام على العدوان الذي شنّه جيش الاحتلال ضد قطاع غزة، بقيَ ما خلّفه من دمار في المنازل والمُنشآت والشوارع، وأرواح رحلت عن أحبابها، وحفنة مواعيد مؤجّلة ما بين لقاءات واختبارات وأشغال ولُقمة عيش.. وأفراح! نعم، أفراح مؤجّلة.. قضى الغزيّون أيّامهم الماضية من العدوان يُشيّعون شهداءهم ويُراقبون سماءً مُحمّلة بالصواريخ، يترقّبون الوقت والأحاديث وما إن كانت الأيّام المقبلة تحمل لهم حرباً باتت هاجساً يوميّاً يُنظّمون حياتهم وفقاً لموعدها.
لا تختلف أولويّات أهالي قطاع غزة أثناء وبعد كل عدوان يشنّه الاحتلال، فما راكمه قصف الاحتلال من آثار بعد ثلاثة أيّام من العدوان، هو نموذج ليس بالبعيد عمّا خلّفه عدوان صيف 2014 وما سبقه من مجازر نفّذها الاحتلال بحقّهم، فمع كل عدوان تتوقّف الحياة والعمل والدراسة وكل ما خُطّط له في وقتٍ سابق، ولا يبقى للغزي إلا أن يُدير شؤون حياته اليوميّة في ظل العدوان بأقل خسائر مُمكنة.
يجب أن نُغلق النوافذ
حاولت بعض العائلات اللحاق بالوقت لإصلاح ما يُمكن إصلاحه في منازلها مع بداية اشتداد برد الشتاء، بالتزامن مع العدوان الذي احتمل الاستمرار أكثر، فبعضهم بدأ بإغلاق النوافذ المُحطّمة بفعل قصف سابق بأمتار من النايلون، والبعض الآخر يُحاول وقف تسرّب المياه من أسقف وجدران المنازل، آخرون يُحاولون توفير ما يُمكن من تموين للعائلة، والبعض يُلملم جرحاً غائراً بعد رحيل أبنائهم شهداء قبل ساعاتٍ أو أيّام ورُبّما سنوات سابقة يُذكّرهم بها صوت من السماء، وأحدهم يبحث عن "الراديو" الصغير والبطاريّات لمُتابعة تغطية الإذاعات المحليّة أوّلاً بأوّل، تحسّباً لانقطاع الكهرباء بالكامل في حال مُواصلة العدوان.
الكتاب أم المذياع؟
تزامنت الأيّام الماضية مع موعد اختبارات نهاية الفصل الدراسي الأوّل في جامعات القطاع، ما دفع وزارة التربية والتعليم إلى تعليق الدوام في ظل خطورة الأوضاع إلى أن يتبيّن ما تحمله الأيّام اللاحقة، فكان الطلبة ما بين مُحاولة تجهيز أنفسهم لاختبارات ربما تكون في اليوم التالي أو أن تؤجّل حتى نهاية العدوان التي ليس بإمكانهم تخمينها بالطبع، وبين مُراقبة الأوضاع الميدانيّة في ظل امتداد القصف للبنايات السكنيّة وعدم قُدرة أهالي القطاع على تخمين أهداف الاحتلال.
في عدوان شتاء (2008-2009) على القطاع، كُنّا نُقلّب الكُتب الدراسيّة تارة ومحطّات المذياع تارةً أخرى، كانت فترة اختبارات نهاية الفصل الدراسي الأوّل في الجامعات والمدارس، وامتد العدوان لأسابيع، وكان الجميع في الأيّام الأولى يجهل ما يحمله الوقت، كونها عمليّة عسكريّة شاملة طالت كافّة مناطق القطاع بشكل مُستمر طيلة الوقت، ولم تقتصر على سلسلة غارات، ولم تكن اجتياح - مثلما كان يحصل قبل انسحاب الاحتلال- يطال منطقة مُحددة، انشغل الجميع في بداية الأمر بإحصاء الشهداء والبحث عن أشلاء بين أنقاض الضربات الأولى في العدوان، ما بين طلبة جامعات ومدارس وعُمّال وموظفين ورجال أمن وغيرهم من أبناء القطاع.
وفي ظل الموت المُحيط بأهالي القطاع، كُنّا بين اختيارين، إما أن نُكمل استعدادنا للاختبارات لاحتمال التوصل لاتفاق وقف إطلاق نار في أي لحظة، أو نتابع ما يدور من أحداث أو حتى هروب من موتٍ يُلاحق الجميع، ولا تزال مقاعد الدراسة في المدارس والجامعات شاهداً على رحيل الآلاف من أصحابها، إلى أن تُعلن وزارة التربية والتعليم عن تعليق الدراسة حتى إشعارٍ آخر، أو أن يكون قد أدرك الجميع ضمنيّاً أنّ الأمر ليس بحاجة لقرارات رسميّة.
فُستان وعرس
في زحمة الأحداث والأخبار، تناقل مُستخدمو مواقع التواصل الاجتماعي صوراً لدمار وأضرار لحقت بالأبنية داخل القطاع إثر العدوان، وفي إحدى الصور كان فستان زفاف مُعلّق على بقايا خزانة ثياب حولها حُطام غُرفة عروسين بانتظار عُرسهما بعد أيّام، بعد مُعاناة لسنوات لتصل العروس من إدلب شمالي سوريا ولم تكن قد نسيت بعد أصوات الصواريخ التي حملتها الحرب في بلادها، بعد سنوات من عناء الشاب فادي الغزالي لبناء وتجهيز منزل يجمعهما. في لمح البصر، دُمّر منزل الغزالي بعد قصف طيران الاحتلال للبناية المُجاورة له "عمارة الرّحمة" في حي الشيخ رضوان بمدينة غزة.
لكنّه لم يُترك وحيداً، أهالي القطاع الذين جمعتهم سنوات من الحصار والقتل اليومي البطيء وجغرافيا ازدحمت بالدماء وأصوات سيّارات الإسعاف ونداءات الجيران في الشوارع "إخلاء" كلّما جاء إنذار بصاروخ استطلاع لقصف منزل، ولُقمة تقاسموها في ظل شُح التموين خلال العدوان والحصار من كل تجاه، تمكّنوا خلال تلك السنوات من حمل بعضهم ولا زالوا.. لا يعولون كثيراً على المُساعدات والأموال التي تضج بها وسائل الإعلام وأفواه سياسيين وبيانات دُول ومُنظّمات دوليّة، إذ يقولون إنها ليست أكثر من حبرٍ على ورق، وفي ظل مُساومة كل الأطراف لأهالي القطاع على لُقمة عيشهم وسد حاجتهم، حاولوا مد يد العون لبعضهم والمُشاركة في مُعالجة آثار ما خلّفه العدوان.
ما حدث مع الشاب فادي الغزالي كان نموذجاً سبقه الكثير في السنوات الماضية من قُدرة أهالي القطاع على إفشال مُحاولات الاحتلال لكسر صمودهم وإضعافهم، فانطلقت حملة على مواقع التواصل الاجتماعي بدأت رسالتها بمُخاطبة الغزيين "كأخوة في الدم وأبناء شعب واحد"، لمُساعدة العريس الذي فقد منزله، على إتمام عُرسه وتعويض ما يُمكن ممّا دُمّر، بحيث تناقل أهالي القطاع رسالة الحملة وشارك فيها أشخاص وتُجّار وأصحاب مُبادرات وأعمال بسيطة، ما بين صيانة وترميم للمنزل وأخرى للمُشاركة في تجهيزات الزفاف والعروسين وحتى أبسط التفاصيل كباقة الورد والصور وتزيين العروس والمواد الغذائيّة.
وكان قد سبق هذه الحملة خلال الأشهر الماضية قيام أهالي القطاع بنشر حملات ومُبادرات على مواقع التواصل الاجتماعي للتكافل فيما بينهم ما بين إسقاط حقّهم في ديون تراكمت بفعل تدهور الأوضاع المعيشيّة في القطاع، وتوفير تموين ومواد غذائيّة أو ملابس وكسوة شتاء وأغطية ومُتعلّقات الأعياد وغير ذلك.
شهيد آخر لـ "لُقمة العيش"
الشهيد خالد رياض السلطان (26) عاماً رحل إثر إصابته عقب استهدافه بصاروخ من طائرة استطلاع، في اليوم الثاني من العدوان، الثلاثاء 13 تشرين الثاني/نوفمبر، أثناء خروجه من مزرعة الدجاج التي لجأ إليها للعمل بعد تخرّجه من تخصّص اللغة العربيّة في جامعة الأقصى.
صديقه شكري، رفيقا البحر: كان العُدوان الأوّل الذي يحدث بعد خروجه من القطاع عبر معبر رفح البرّي، بعد مُحاولات امتدّت لسنوات، تلقّى خبر استشهاد رفيقه وأحد أقربائه في غربةٍ أجبِر عليها، باحثاً عن سبيلٍ للخروج من موتٍ بطيء، خروج نعرف جيّداً أنه سيكون عبئنا الثقيل حين نُشاهدُ أحبابنا في سجنهم الكبير، نشاهدُ موتهم البطيء من خلف السور، عاجزين حتى عن مُشاركتهم ذلك المصير.
من اليرموك إلى غزة.. شهيد ابن شهيد
غادر محمد التتري وعائلته مُخيّم اليرموك للاجئين جنوب العاصمة السوريّة دمشق الذي وُلد ونشأ فيه، بعد انسحاب الاحتلال من قطاع غزة عام 2005، ليُكمل حياته في مُخيّم جباليا للاجئين شمالي القطاع، ما بين ذكرياته عن شوارع اليرموك التي احتضنته في الشتات وذكرى والده الشهيد زكريّا التتري الذي قاتل في صفوف الفدائيين، وصولاً إلى انخراط محمد في العمل الطلّابي والنقابي والنضالي في غزة، ليستشهد ورفيقه محمد زهدي حسن عودة (22) عاماً إثر قصف جوّي طاله شمالي القطاع.
كان الشهيد التتري شاهداً على العدوان الصهيوني على القطاع منذ سنوات، حيث شارك في التغطية الإعلاميّة عبر الإذاعات المحليّة لأحداثه، وقدّم برنامجاً إذاعيّاً في إذاعة "صوت الشعب" حول السيرة الذاتيّة للشهداء ويستضيف عائلاتهم للحديث عنهم.
خلال الأشهر الماضية فقد الشهيد التتري رفاقاً جمعته بهم سنوات من الحياة والعمل والفُقدان والخسارة والانتصار، فمنذ انطلاق مسيرات العودة الكُبرى التي توجّهت فيها الجماهير الفلسطينيّة باتجاه السياج الأمني العازل شرقي القطاع، استشهد الصحفي أحمد أبو حسين برصاص الاحتلال، وأيمن النجار ومهند حمودة إثر قصف من جانب الاحتلال، ليلحق بهم الشهيد التتري إثر قصف جوّي شمالي القطاع قبل أيّام من كتابة هذه السطور.
أنا..
حين غادرت القطاع كانت المرّة الأولى التي أرى فيها سماءً غير التي نعرف، بدأت تختفي زُرقتها وبدأ اللون الأصفر بالامتداد، كانت الجمعة الثالثة لمسيرة العودة الكُبرى، علمت بموعد سفري عبر المعبر قبل ساعات، أثناء وجودنا في قاعة "أبو يوسف النجار" بخانيونس بانتظار توجّهنا إلى المعبر، قرأت خبر إصابة صديقنا الصحفي أحمد أبو حسين، كان تخميني في حينها أنها رُبما إصابة متوسطة في القدم أو أحد الأطراف.
بعد نحو (47) ساعة من بداية إجراءات السفر، وصلنا إلى القاهرة، بعد أيّام من مُتابعة أخبار الحالة الصحيّة لأحمد وتحويله إلى مُستشفى داخل الأراضي المُحتلّة، علمت في رسالة نصيّة وصلتني يوم 24 من نيسان/ابريل الماضي بنبأ استشهاده، إثر إصابة بعيار ناري في البطن.
في الرابع عشر من أيّار/مايو الماضي، بدأت ساعات عملي للتغطية الإعلاميّة لأحداث هذا اليوم، بدأت أعد الشُهداء والجرحى على طول السياج الأمني العازل شرقي القطاع، أبحث عن الأسماء، أحاول التواصل مع العائلة والأصدقاء لأطمئن، هواتف مُغلقة وبعضها لا يُمكن الوصول إليه، وصلنا لرقم (67) شهيداً والعدد في ارتفاع مُستمر، ولم نعد نجد أسماء، كانت أعداد تتزايد فقط في ذلك اليوم، ومُستمرّة حتى هذا اليوم، فالإعلان المُستمر بشكل شبه يومي عن شهداء برصاص أو قصف الاحتلال، لا يخلو من عنوان "شهيد مُتأثراً بجراحه"، في إصابات مرّ عليها أيّام أو أسابيع أو شهور أو حتى سنوات.
لم تمنع جنازات تشييع الشُهداء في غزة أهلها من إتمام أفراحهم ولحاق الطلبة والأمّهات الوقت للتحضير للاختبارات، أو إغلاق نوافذهم لتحميهم من برد وأمطار الشتاء.. إلّا من موتٍ يطرق أبوابهم في كل حين.
لم تمنعهم أطنان المواد المُتفجّرة التي أمطرهم بها الاحتلال، من الخروج في كل الشوارع وإلى منازل الشهداء وعائلاتهم، هاتفين لهم "بالرّوح بالدم نفديك يا شهيد".. الشهيد الذي رحل، لا زالوا يرون أنفسهم كفيلين بفدائه، لا زالوا يهتفون لنصرهم وأبنائهم على آلة القتل اليومي، على كل من حاصرهم وأصرّ على تجويعهم وهزمهم، ولم يُهزموا.
بعد أيّام على العدوان الذي شنّه جيش الاحتلال ضد قطاع غزة، بقيَ ما خلّفه من دمار في المنازل والمُنشآت والشوارع، وأرواح رحلت عن أحبابها، وحفنة مواعيد مؤجّلة ما بين لقاءات واختبارات وأشغال ولُقمة عيش.. وأفراح! نعم، أفراح مؤجّلة.. قضى الغزيّون أيّامهم الماضية من العدوان يُشيّعون شهداءهم ويُراقبون سماءً مُحمّلة بالصواريخ، يترقّبون الوقت والأحاديث وما إن كانت الأيّام المقبلة تحمل لهم حرباً باتت هاجساً يوميّاً يُنظّمون حياتهم وفقاً لموعدها.
لا تختلف أولويّات أهالي قطاع غزة أثناء وبعد كل عدوان يشنّه الاحتلال، فما راكمه قصف الاحتلال من آثار بعد ثلاثة أيّام من العدوان، هو نموذج ليس بالبعيد عمّا خلّفه عدوان صيف 2014 وما سبقه من مجازر نفّذها الاحتلال بحقّهم، فمع كل عدوان تتوقّف الحياة والعمل والدراسة وكل ما خُطّط له في وقتٍ سابق، ولا يبقى للغزي إلا أن يُدير شؤون حياته اليوميّة في ظل العدوان بأقل خسائر مُمكنة.
يجب أن نُغلق النوافذ
حاولت بعض العائلات اللحاق بالوقت لإصلاح ما يُمكن إصلاحه في منازلها مع بداية اشتداد برد الشتاء، بالتزامن مع العدوان الذي احتمل الاستمرار أكثر، فبعضهم بدأ بإغلاق النوافذ المُحطّمة بفعل قصف سابق بأمتار من النايلون، والبعض الآخر يُحاول وقف تسرّب المياه من أسقف وجدران المنازل، آخرون يُحاولون توفير ما يُمكن من تموين للعائلة، والبعض يُلملم جرحاً غائراً بعد رحيل أبنائهم شهداء قبل ساعاتٍ أو أيّام ورُبّما سنوات سابقة يُذكّرهم بها صوت من السماء، وأحدهم يبحث عن "الراديو" الصغير والبطاريّات لمُتابعة تغطية الإذاعات المحليّة أوّلاً بأوّل، تحسّباً لانقطاع الكهرباء بالكامل في حال مُواصلة العدوان.
الكتاب أم المذياع؟
تزامنت الأيّام الماضية مع موعد اختبارات نهاية الفصل الدراسي الأوّل في جامعات القطاع، ما دفع وزارة التربية والتعليم إلى تعليق الدوام في ظل خطورة الأوضاع إلى أن يتبيّن ما تحمله الأيّام اللاحقة، فكان الطلبة ما بين مُحاولة تجهيز أنفسهم لاختبارات ربما تكون في اليوم التالي أو أن تؤجّل حتى نهاية العدوان التي ليس بإمكانهم تخمينها بالطبع، وبين مُراقبة الأوضاع الميدانيّة في ظل امتداد القصف للبنايات السكنيّة وعدم قُدرة أهالي القطاع على تخمين أهداف الاحتلال.
في عدوان شتاء (2008-2009) على القطاع، كُنّا نُقلّب الكُتب الدراسيّة تارة ومحطّات المذياع تارةً أخرى، كانت فترة اختبارات نهاية الفصل الدراسي الأوّل في الجامعات والمدارس، وامتد العدوان لأسابيع، وكان الجميع في الأيّام الأولى يجهل ما يحمله الوقت، كونها عمليّة عسكريّة شاملة طالت كافّة مناطق القطاع بشكل مُستمر طيلة الوقت، ولم تقتصر على سلسلة غارات، ولم تكن اجتياح - مثلما كان يحصل قبل انسحاب الاحتلال- يطال منطقة مُحددة، انشغل الجميع في بداية الأمر بإحصاء الشهداء والبحث عن أشلاء بين أنقاض الضربات الأولى في العدوان، ما بين طلبة جامعات ومدارس وعُمّال وموظفين ورجال أمن وغيرهم من أبناء القطاع.
وفي ظل الموت المُحيط بأهالي القطاع، كُنّا بين اختيارين، إما أن نُكمل استعدادنا للاختبارات لاحتمال التوصل لاتفاق وقف إطلاق نار في أي لحظة، أو نتابع ما يدور من أحداث أو حتى هروب من موتٍ يُلاحق الجميع، ولا تزال مقاعد الدراسة في المدارس والجامعات شاهداً على رحيل الآلاف من أصحابها، إلى أن تُعلن وزارة التربية والتعليم عن تعليق الدراسة حتى إشعارٍ آخر، أو أن يكون قد أدرك الجميع ضمنيّاً أنّ الأمر ليس بحاجة لقرارات رسميّة.
فُستان وعرس
في زحمة الأحداث والأخبار، تناقل مُستخدمو مواقع التواصل الاجتماعي صوراً لدمار وأضرار لحقت بالأبنية داخل القطاع إثر العدوان، وفي إحدى الصور كان فستان زفاف مُعلّق على بقايا خزانة ثياب حولها حُطام غُرفة عروسين بانتظار عُرسهما بعد أيّام، بعد مُعاناة لسنوات لتصل العروس من إدلب شمالي سوريا ولم تكن قد نسيت بعد أصوات الصواريخ التي حملتها الحرب في بلادها، بعد سنوات من عناء الشاب فادي الغزالي لبناء وتجهيز منزل يجمعهما. في لمح البصر، دُمّر منزل الغزالي بعد قصف طيران الاحتلال للبناية المُجاورة له "عمارة الرّحمة" في حي الشيخ رضوان بمدينة غزة.
لكنّه لم يُترك وحيداً، أهالي القطاع الذين جمعتهم سنوات من الحصار والقتل اليومي البطيء وجغرافيا ازدحمت بالدماء وأصوات سيّارات الإسعاف ونداءات الجيران في الشوارع "إخلاء" كلّما جاء إنذار بصاروخ استطلاع لقصف منزل، ولُقمة تقاسموها في ظل شُح التموين خلال العدوان والحصار من كل تجاه، تمكّنوا خلال تلك السنوات من حمل بعضهم ولا زالوا.. لا يعولون كثيراً على المُساعدات والأموال التي تضج بها وسائل الإعلام وأفواه سياسيين وبيانات دُول ومُنظّمات دوليّة، إذ يقولون إنها ليست أكثر من حبرٍ على ورق، وفي ظل مُساومة كل الأطراف لأهالي القطاع على لُقمة عيشهم وسد حاجتهم، حاولوا مد يد العون لبعضهم والمُشاركة في مُعالجة آثار ما خلّفه العدوان.
ما حدث مع الشاب فادي الغزالي كان نموذجاً سبقه الكثير في السنوات الماضية من قُدرة أهالي القطاع على إفشال مُحاولات الاحتلال لكسر صمودهم وإضعافهم، فانطلقت حملة على مواقع التواصل الاجتماعي بدأت رسالتها بمُخاطبة الغزيين "كأخوة في الدم وأبناء شعب واحد"، لمُساعدة العريس الذي فقد منزله، على إتمام عُرسه وتعويض ما يُمكن ممّا دُمّر، بحيث تناقل أهالي القطاع رسالة الحملة وشارك فيها أشخاص وتُجّار وأصحاب مُبادرات وأعمال بسيطة، ما بين صيانة وترميم للمنزل وأخرى للمُشاركة في تجهيزات الزفاف والعروسين وحتى أبسط التفاصيل كباقة الورد والصور وتزيين العروس والمواد الغذائيّة.
وكان قد سبق هذه الحملة خلال الأشهر الماضية قيام أهالي القطاع بنشر حملات ومُبادرات على مواقع التواصل الاجتماعي للتكافل فيما بينهم ما بين إسقاط حقّهم في ديون تراكمت بفعل تدهور الأوضاع المعيشيّة في القطاع، وتوفير تموين ومواد غذائيّة أو ملابس وكسوة شتاء وأغطية ومُتعلّقات الأعياد وغير ذلك.
شهيد آخر لـ "لُقمة العيش"
الشهيد خالد رياض السلطان (26) عاماً رحل إثر إصابته عقب استهدافه بصاروخ من طائرة استطلاع، في اليوم الثاني من العدوان، الثلاثاء 13 تشرين الثاني/نوفمبر، أثناء خروجه من مزرعة الدجاج التي لجأ إليها للعمل بعد تخرّجه من تخصّص اللغة العربيّة في جامعة الأقصى.
صديقه شكري، رفيقا البحر: كان العُدوان الأوّل الذي يحدث بعد خروجه من القطاع عبر معبر رفح البرّي، بعد مُحاولات امتدّت لسنوات، تلقّى خبر استشهاد رفيقه وأحد أقربائه في غربةٍ أجبِر عليها، باحثاً عن سبيلٍ للخروج من موتٍ بطيء، خروج نعرف جيّداً أنه سيكون عبئنا الثقيل حين نُشاهدُ أحبابنا في سجنهم الكبير، نشاهدُ موتهم البطيء من خلف السور، عاجزين حتى عن مُشاركتهم ذلك المصير.
من اليرموك إلى غزة.. شهيد ابن شهيد
غادر محمد التتري وعائلته مُخيّم اليرموك للاجئين جنوب العاصمة السوريّة دمشق الذي وُلد ونشأ فيه، بعد انسحاب الاحتلال من قطاع غزة عام 2005، ليُكمل حياته في مُخيّم جباليا للاجئين شمالي القطاع، ما بين ذكرياته عن شوارع اليرموك التي احتضنته في الشتات وذكرى والده الشهيد زكريّا التتري الذي قاتل في صفوف الفدائيين، وصولاً إلى انخراط محمد في العمل الطلّابي والنقابي والنضالي في غزة، ليستشهد ورفيقه محمد زهدي حسن عودة (22) عاماً إثر قصف جوّي طاله شمالي القطاع.
كان الشهيد التتري شاهداً على العدوان الصهيوني على القطاع منذ سنوات، حيث شارك في التغطية الإعلاميّة عبر الإذاعات المحليّة لأحداثه، وقدّم برنامجاً إذاعيّاً في إذاعة "صوت الشعب" حول السيرة الذاتيّة للشهداء ويستضيف عائلاتهم للحديث عنهم.
خلال الأشهر الماضية فقد الشهيد التتري رفاقاً جمعته بهم سنوات من الحياة والعمل والفُقدان والخسارة والانتصار، فمنذ انطلاق مسيرات العودة الكُبرى التي توجّهت فيها الجماهير الفلسطينيّة باتجاه السياج الأمني العازل شرقي القطاع، استشهد الصحفي أحمد أبو حسين برصاص الاحتلال، وأيمن النجار ومهند حمودة إثر قصف من جانب الاحتلال، ليلحق بهم الشهيد التتري إثر قصف جوّي شمالي القطاع قبل أيّام من كتابة هذه السطور.
أنا..
حين غادرت القطاع كانت المرّة الأولى التي أرى فيها سماءً غير التي نعرف، بدأت تختفي زُرقتها وبدأ اللون الأصفر بالامتداد، كانت الجمعة الثالثة لمسيرة العودة الكُبرى، علمت بموعد سفري عبر المعبر قبل ساعات، أثناء وجودنا في قاعة "أبو يوسف النجار" بخانيونس بانتظار توجّهنا إلى المعبر، قرأت خبر إصابة صديقنا الصحفي أحمد أبو حسين، كان تخميني في حينها أنها رُبما إصابة متوسطة في القدم أو أحد الأطراف.
بعد نحو (47) ساعة من بداية إجراءات السفر، وصلنا إلى القاهرة، بعد أيّام من مُتابعة أخبار الحالة الصحيّة لأحمد وتحويله إلى مُستشفى داخل الأراضي المُحتلّة، علمت في رسالة نصيّة وصلتني يوم 24 من نيسان/ابريل الماضي بنبأ استشهاده، إثر إصابة بعيار ناري في البطن.
في الرابع عشر من أيّار/مايو الماضي، بدأت ساعات عملي للتغطية الإعلاميّة لأحداث هذا اليوم، بدأت أعد الشُهداء والجرحى على طول السياج الأمني العازل شرقي القطاع، أبحث عن الأسماء، أحاول التواصل مع العائلة والأصدقاء لأطمئن، هواتف مُغلقة وبعضها لا يُمكن الوصول إليه، وصلنا لرقم (67) شهيداً والعدد في ارتفاع مُستمر، ولم نعد نجد أسماء، كانت أعداد تتزايد فقط في ذلك اليوم، ومُستمرّة حتى هذا اليوم، فالإعلان المُستمر بشكل شبه يومي عن شهداء برصاص أو قصف الاحتلال، لا يخلو من عنوان "شهيد مُتأثراً بجراحه"، في إصابات مرّ عليها أيّام أو أسابيع أو شهور أو حتى سنوات.
لم تمنع جنازات تشييع الشُهداء في غزة أهلها من إتمام أفراحهم ولحاق الطلبة والأمّهات الوقت للتحضير للاختبارات، أو إغلاق نوافذهم لتحميهم من برد وأمطار الشتاء.. إلّا من موتٍ يطرق أبوابهم في كل حين.
لم تمنعهم أطنان المواد المُتفجّرة التي أمطرهم بها الاحتلال، من الخروج في كل الشوارع وإلى منازل الشهداء وعائلاتهم، هاتفين لهم "بالرّوح بالدم نفديك يا شهيد".. الشهيد الذي رحل، لا زالوا يرون أنفسهم كفيلين بفدائه، لا زالوا يهتفون لنصرهم وأبنائهم على آلة القتل اليومي، على كل من حاصرهم وأصرّ على تجويعهم وهزمهم، ولم يُهزموا.
خاص-بوابة اللاجئين الفلسطينيين