تقرير الوليد يحيى
قلّما نسمع عن لاجئ فلسطيني في جزيرة قبرص، فهذه الجزيرة الصغيرة بعرض البحر المتوسط، بدت وكأنها عنوان لحظ اللاجين العاثر، وهم في طريقهم إلى دول اللجوء الأوروبي، حيث تقع قواربهم في قبضة خفر السواحل القبرصي، أو تتعطل في عرض البحر فيضطرّ الركاب لطلب النجدة، وفي كلا الحالتين يكون المنفى الجديد تلك الجزيرة، لتبدأ فيها رحلة حياتيّة شاقّة، تُضاف إلى شقاء طريق الوصول وما قبلها من معاناة الحرب في سوريا.
فراس عبّاس، إبن مخيّم اليرموك، أحد من حطّ بهم لجوؤهم العاثر في جزيرة قبرص، عقب رحلة يصفها برحلة الموت، بدأت في منتصف تموز 2014، حين ضُيّق المخيّم على أبنائه حصاراً واستهدافا، فبات الفرار قدر اللاجئين الفلسطينيين.
لم يتخيّل فراس يوماً، أن يوضع في مكانٍ، يجرّده من أدنى الحقوق المعيشيّة والاقتصاديّة، وهو الذي أجبر على ترك مخيّمه وكل ما له فيه من ممكنات أسسها من الصفر كعموم اللاجئين الفلسطينيين، ليبرهن مجدداً في لجوئه القبرصي المرير، بأنّ الصفر الذي لا يمتلك اللاجئون الفلسطينيون سواه، قيمة انطلاق ومواجهة يبرع أبناء اليرموك وسواهم في استثمارها، بعد رحلة من المعاناة الاستثنائيّة سرد بعضَ تفاصييها لموقع " بوابة اللاجئين الفلسطينيين".
رحلة موت
22 أيلول/ سبتمبر 2014، تاريخ الوصول إلى تركيّا، حيث حطّت أقدام فراس وعائلته في المركب وهو عبارة عن " جاروفة صيد" بطول 28 متراً وعلى متنه 342 شخصاً، وذلك بعد نقل اللاجئين عدّة مرات عبر سفن صغيرة في البحر، وفق ما قال فراس في حديث لـ" بوابة اللاجئين الفلسطينيين".
رحلة موت بكامل تفاصيلها، تعرّضوا قبلها للنهب والكذب والاستغلال من قبل المهرّبين، لتنسيهم تفاصيلُ الرحلة ربّما كل المعاناة التي قبلها، ففي عرض البحر، الموت يصبح شفافاً في وضوحه كالماء، ومندفعاً مع الموج بكامل هيجانه وشراسته، وليس على اللاجئين في هذا الموقف سوى انتظار المآل إلامَ سينتهي.
"وفي ليلة اليوم الثالث من رحلة الموت، تعطّل محرّك السفينة، و أجبرنا على طلب الاستغاثة عبر الطلقات المضيئة وتحديد موقعنا" يقول فراس، بعد أن لخّص حالتهم الشعوريّة والنفسيّة بقوله "كنّا في حالة تعجز الكلمات عن التعبير"، فهنا يتعثر السرد أمام هول الموقف، ساعات انقضت في عرض البحر، بين الأمواج التي كادت أن تغرق المركب بما فيه، قبل وصول سفينة سياحية انطلقت من قبرص ولبّت نداء النجدة بعد تحديد موقعهم بواسطة طائرة مروحيّة.
صدمة قبرص
لم تصل رحلة الموت بفراس وعائلته ورفاقه في اللجوء، إلى الوجهة التي أرادوا أن تكون وهي ألمانيا أو السويد أو هولندا، بل حطّت بهم في "معسكر خيم" كما وصفه فراس، حيث نقلتهم حافلات إلى مخيّم كوتشينو تريميثيا في منطقة ريفيّة بعيدة عن المدينة، وهناك خَبِرُوا واقعاً إيوائيّاً ومعيشيّاً مريراً لفّ العشرات من النساء والأطفال والرجال، غالبيّتهم من اللاجئين الفلسطينيين.
مكانٌ تعمّدت السلطات القبرصيّة على زجّهم به، لإجبارهم على طلب اللجوء في قبرص، وذلك عملاً بإتفاقيّة دبلن التي تجبر اللاجئين على طلب اللجوء في أوّل بلد يحطّون به، لكنّ إجراءات الإجبار القبرصيّة الصادمة، كانت أكبر من المتخيّل.
مخيّم أقيم على التراب، تغزوه الأمطار بغزارة لدرجة الغرق، وتعمّدٌ في قطع الخدمات من قبل السلطات القبرصيّة، عقب شهرين من مكوث اللاجئين فيه، ليجد اللاجئون أنفسهم بلا طعام ولا مواصلات.
طهي الطعام.. من ضرورة مفروضة إلى حرفة ناجحة
روح التطوّع التي يملكها فراس، مكنّته من تلمّس ما يسطتيع فعله من أجل العيش، ليكتشف أنّه قادرٌ على خطّ مساره المستقبلي في لجوئه القبرصي، لتأمين عيشه في هذا البلد الذي يُترك فيه اللاجئون لمصيرهم، دون إحاطتهم بأي ممكنات تساعدهم على الانطلاق.
طهي الطعام للاجئين في المخيّم، ضرورة فرضها قطع السلطات القبرصيّة للغذاء والخدمات عن 340 شخصاً من ساكنيه، فعمدت رئيسة الجاليّة الفلسطينية في قبرص فوزيّة تيّم وعضو الجاليّة خالد مرتجى، ورئيس حملة الوفاء أمين ابو راشد، برفد المخيّم بالمواد الأوليّة لصنع الطعام، فقام فراس بالتطوّع لإعداده لهذا الكم الكبير من اللاجئين.
كان الأمر صعباً في البداية، يقول فراس لـ"بوابة اللاجئين الفلسطينيين" ويضيف: " بدأنا في إعداد الطعام لهذا العدد الكبير دون توفّر المعدّات الكافية من طناجر وسواها، وكان الطهي يتم على موقد غاز واحد، لكن بالكثير من الجهد والتعب كنّا ننجح في المهمّة واستمرينا على هذا المنوال لمدّة شهر ونصف".
انطلاقة جديدة لفراس، بدأت من اتخاذه لحرفة الطبخ كأداة لكفاحه، استمرّ في ممارستها وتطويرها في "كامب" اللجوء الجديد الذي انتقل إليه في منطقة كوفينو، وأقام فيه لمدّة 9 أشهر، عقب تقدّمه بطلب اللجوء لدى السلطات القبرصيّة حتّى نال مع عائلته أوراق الإقامة.
يقول فراس، "هنا فعليّاً بدأت قصّتي في تحضير الطعام للمناسبات التي تُقام في المخيّم، حتّى صارت الطلبات تأتي من قبل منظّمات قبرصيّة لأصنع لهم الطعام والحلويات في مناسباتهم، ولاحتفاليات كثيرة منها يوم اللاجئ، ومناسبات كاحتفال المنظمات بذكرى تأسيسها وهكذا.."
بالنسبة لفراس، ما يفعله ليس مجرّد أمرٍ احترفه ونجح به، ليواجه ظروف اللجوء الجديد وينطلق بحرفة لم تخطر على باله ممارستها في يوم من الأيّام لتأمين معيشة عائلته فحسب، بل تشكّل لإبن اليرموك الذي حوّل الصفر إلى نقطة انطلاق، فرصةً لتعزيز اسم فلسطين لدى الآخر الغريب، فهو يعتزّ بتقديمه أصناف الطعام الفلسطينية وتأكيده على هويّتها، إلى جانب رفع علم بلاده في كل مناسبة أو مهرجان يطهو به، وليس بغريب على إبن اليرموك أن ينهي حديثه دائماً بأمل العودة واسترجاع كافة الحقوق الوطنيّة الفلسطينية، كما فعل في ختام حديثه لـ"بوابة اللاجئين الفلسطينيين".