( المكان الذي لا يؤنَّث ، لا يعوَّل عليه )
- إبن عربي –
ممددٌ على سريري، أنظر في حنوٍ لسيجارتي التي لففتُها بإتقان ، أشعلُها، ثم أمِجُّ منها، كاتمًا دخانها لعدة ثوانٍ داخل رئتيّ، هكذا دواليك حتى تتلاشى بالكامل ما عدا فِلترها.
أصوات الموجودات من حولي يخفت إيقاعها تدريجيًّا، يلوح في الأفق الذهني عالمٌ آخرٌ ضبابيّ الرؤية مبهمة الأبعاد، غير قابلة للتفسير ورويدًا رويدًا تتضح معالمه فيمسي موازيًا لعالمي، إلى أن يختلطا ببعضهما البعض، عندها يصعب تمييزهما.
هنا أبتسم مُستقبِلًا، غارقًا، متأملًا، مُتبنِّجًا، لا يهم. يصاحب شعوريَ ذاك ارتخاء لعضلات جسمي بأكمله كما وسماع دقات قلبي عن كثب.
لا آبه إذا كانت في البدء الكلمة أم إذا كانت الصورة سابقة على الكلمة، كلاهما سيان بالنسبة لي، فلو حبذا اتباع الصور والكلام غير المتسلسل آنيًّا.
حومان للأفكار، تتضارب على جوانب رأسي فتستحيل إلى قطع مبعثرة صغيرة تستقل كل منها لتكوين صورة خاطفة أو كلمات ذات وقع عميق لا تعرف النهاية.
استحضرها الآن أمامي مُحركةً أوتار روحي، مستمتعًا لموسيقاها، ألبث مكاني محدقًا! يا ويلاه! لا يوجد رباطٌ ما بين القلوب أشد من العاهات المشتركة. أيتها السرابية أراكِ قريبة لكنك بعيدة وبعيدة لكنكِ قريبة هكذا دون مسافة، بلا زمن، تريدين فقط أن تكوني نصف الأشياء. أختزل فيكِ شتاتي، ضياعي، مهجري، وكل لجوءٍ. اشكي إليك همًا أنا صاحبهُ أنتِ المتحللة في دمي المتغلغلة في أعصابي، أختصر عواطفي تجاه فلسطين فيكِ والعكس صحيح، لا فكاكَ منكِ فليس أقوى من ذكراكِ سوى الموت، ربما أجدُ في موتي بدءًا لحياةٍ أخرى، فما رميت إذ رميت لكن الحب رمى.
أبوح لصديقيَ القارئ النهم ما يعتمل خلدي فيك، ينظر إليَّ برهةً مُتفحصًا ومن ثم يتحول حديثه، عن الأمر الواقع، عن فلسفة المنطق، يُفلسف ما هو غير قابلٍ للتفلسف والتمنْطُق. أدعه يكمل شروحه ساهيًا عنه وصوته. يستغرق داخل عوالم يصعبُ على وعيه إدراك كنهها، لكنه ليس يلام.
أخطف بعضي متجهًا ناحية البحر، أمشي الهوينا على الكورنيش، أرنو إلى البحر الأبيض الملوث. أُشعل سيجارة أنفث نابين دخان من منخريّ، أرى دَرَكيّان يتجولان ببذتين باهتتين، كم هم مثيرون للشفقة أولئك العسكر. امرأة عجوز جالسة على المقعد العمومي للكورنيش تضحك وزوجها حيث بان على فمها حبال لعابها التي هي أشبه بأوتار غيتار محلولة. تابعت مسيري على غير هدى شاعر. بما لا أستطيع الاهتداء إليه، إلا أنني غير مهتم.
صورة الزعيم، أبونا، أبو الطائفة، حتى في تكشيرته يبدو أبلهًا ساذجًا لا هيبة فيه، أحمق مُطاع فحسب. لم تعد تعنيني خطابات أمثاله المحكومة بالحرب، ولا حتى الحواجز المرشومة هنا وهناك. قد ضاقت بيَ الأرض بما رحِبَت باستثنائِك! أعلم بأنكِ لا تصدقينني، حسنًا، إني أكذب بضراوة الصدق، ها أنا ذا أفلسفها لك كصديقي القارئ النهم " الخالص".
فأنا لا أبالي بالتأكيد لا أبالي.
تتواتر الأخبار مع توالي الفيديوهات، إسرائيل تقصف وحماس ترد، أشاهد تلك اللقطات المصورة من الجانب الإسرائيلي، تعج السماء من فوقهم بفرقعة الصواريخ المختلطة بصوت الانذار، لا استسيغها عمومًا لكنَّ إيقاع زمور الخطر الإسرائيلي يُطربني وأجده غاية في المتعة. أبتسم هنيهة وأردف لا مباليًا " طب أنا شو استفدت هلأ؟" ، "يلا على القليلة معنويات!"
يهاتفني القارئ النهم وأدعوه للمجيء، يصل وإمارات الحنق والتوتر طافحة على محياه، أسأله ما خطبك؟ يجيبني باشمئزاز " جماعة صحاب المنطقة عاملين حاجز وما بعرف ليش اختاروني من بين الجميع ونزّلوني من الفان ليحققوا معي!!" أحاول تهدئة روعه عارضًا عليه سيجارة، ينظر إليها مترددًا قائلًا: "طيب ليك بعد شوي بنولعها، اعمل قهوة إذا فيك"
أدير اللابتوب، أفتح صفحة الفيس بوك، أقرأ بوست لمراد طراونة، فتباغتني نوبة ضحك، مناديا لصديقي النهم بحماسة كي يقرأه. مراد أيضًا أوقفوه نحو ساعتين على حاجز بيتونيا الإسرائيلي قرب رام الله. انتظر ردة فعل "النَّهم" بينما ينهي قراءة البوست. استثيره مُمازحًا "هيّاك ما لحالك بتِتْوقف تعملّيش منها دراما اسّا". ينظر إليّ بطرف عينه مبتسمًا ويقول "نحنا شعوب انخلقت ليكون عليها حواجز".
أرشف سيجارتي في فضولٍ أراقب تجمع رمادها على الجمر الملتهب، أتأمل خبو خيوط ضوء الشمس عبر النافذة وابتلاع الظلمة للسماء. تندُّ عني ابتسامة اطمئنان لاواعية مسبّلًا عيناي مستحضرًا ذكرى مشتركة، يخفق قلبي بموجبها بشدة كأنه يبحث لنفسه عن طريقٍ نحوكِ ففي التفكُر بك أمسح عن نفسي صدأ الألم وأنفض عن عيوني رماد الشقاء.
فعدا ذلك لا أبالي..