كنت أقف أمام واجهة معرض فني في أحد الأسواق المترفة بمدينة كوبنهاجن، بعد أن أنهيت بحثي عن مواد أستطيع استخدامها بإعادة ترميم قماش اللوحة التي أعمل عليها .
سمعت صوت نداء بدا واضحاً، يردد اسم الفائز في مسابقة فنية تعرض لوحات متسابقيها في هذا المعرض. أعرف هذا الاسم جيداً لكنني لم أتخيل أبداً أن اسمع به هنا في كوبنهاجن.
سليم عاصي، أعادت السيدة النداء لمرات و بدا أنه غير موجود ليتسلم جائزته. كنت في ذلك الوقت زائراً للمدينة و لم يكن هدفي المشاركة في أي فعاليات محلية أو زيارة معارض، كنت زائراً لشقيقتي و لأن إجازتي تمتد لأسابيع قررت العمل على لوحة جديدة و استخدام مواد معاد تدويرها لذلك .
أثار اهتمامي أن أسمع اسم سليم، فدخلت إلى قاعة المعرض بحثاً عنه، فمعرفتي به تقتصر على سيرته ومواقفه الوطنية التي طالما وردت الى مسامعي، ولا سيما في مخيم الجليل، مسقط رأسه.
اعتدت أن أجد نفسي في فضاء فني واسع وأن أجد اهتماماً أوروبيا بالفنون لكن الغريب في هذا المعرض أن تجهيزاته فاقت أي توقعات لدي، فالديكور الفاخر من السجاد الأحمر وهندسة الإنارة وحبال الوصل والفصل وحراسة المكان كانت أشبه بمراسم حفل ماسوني.
جلت بنظري بحثاً عن وجوه عربية ولم أفلح في إلتقاط أي وجه منها فتوجهت إلى مكتب الإستقبال وسألتهم عن هذا المعرض وعن مشاركيه بشكل عام فقالت الموظفة أن المشاركات تشمل أكثر من مئة لوحة على صعيد ست بلديات دانماركية بواقع تسعين مشاركة لفنانين دنماركيين وست عشرة مشاركة لجنسيات مختلفة .
لم أتردد في السؤال عن الفائز الذي أطلق النداء باسمه عدة مرات فأجابت: للأسف تم منح الجائزة للفائز في المرتبة الثانية لعدم حضور الفائز الأول وهي من شروط المسابقة .
تركت الموظفة و بدأت بجولتي لمشاهدة اللوحات ثم عدت لمشاهدة اللوحة التي شارك بها سليم والتي حملت عنوان "العودة" تشكيلية مقروءة و وهي تشرح نفسها بنفسها دون العودة لعنوانها الآسر والذي لا أزال من جملة الفلسطينيين الحالمين به .
حملت اللوحة رقم 71 ضمن مجموعة المشاركات. و بعد أن اقترب موعد إنتهاء الحفل تفاجأت بوصول سليم إلى القاعة. ربما دخولي المتأخر وتأخر وصوله جعل من اللقاء أمرا ممكناً .
توجه سليم إلى موظفة الاستقبال ليطلب منها استعادة لوحته خوفاً من إهمالها، فأبلغته أن لوحته قد نقلت الى مكتب مدير المعرض فصعد إليه وهناك أبلغه بانتقال الجائزة لآخر وقدم له قارورة نبيذ كجائزة ترضية .
لم يهتم لأمر الجائزة المالية التي بلغت عشرة آلاف كرون إضافة إلى عرض صورة عن اللوحة في عدة مواقع بارزة في المدينة بل كان معنياً بتوثيق فوزه بها، فحصل على شهادة تصنيف الجائزة وعاد بلوحته إلى منزله.
لم نلتق بالمعنى الحرفي للكلمة لكنني أخذت أتابع ما ينجز سليم بعد فوز اللوحة 71 (العودة). كان ذلك عام 2008 ومنذ ذلك الوقت بدأ سليم يعمل على إقامة مشاريع معارض جديدة وقد أقام معرض "العين الثالثة" عام 2010 في غاليري كوبنهاجن وقد لاقى إقبالاً على الصعيدين الشعبي والرسمي.
ما يثير في لوحات سليم أنه يعمل على دمج الأسلوب الشرقي الذي يعتمد على سرد القصة في اللوحة والأسلوب الغربي الذي يعتمد على الرمزية في الألوان والذي أثار اهتمام الكثير من الشخصيات الهامة في الدنمارك وعلى مستوى المؤسسات الأهلية والفنية أيضاً .
الفن المقاوم. عنوان يختصر ما تحمله خطوط التماس التي يقوم برسمها سليم ويمنحها الحياة نصاً وملامحا .
بدا لي أن مشاركات سليم في المعارض الفنية في عدة دول وليس آخرها تركيا، لم تلق الدعم والرواج الكافيين لدى المتذوق العربي، وحتى على صعيد أن هذا الفن هو فعلاً من أدوات المقاومة الفلسطينية التي يجب أن تدعم بكل الوسائل المتاحة، فالدعم تحصين لهذه الوسائل وجعل جهدها بناء ومثمر باستمراريته. رغم ذلك استمر سليم بتقديم كل ما يملك في سبيل العطاء الفني والبحث عن منصات جديدة للعرض وتدعيم رسالته الفنية في أوروبا حيث صال وجال بين مدنها معرفاً على فنّه المقاوم من خلال مشاركته في المؤتمرات والفعاليات الفلسطينية، ومؤخرا في لبنان حيث دفعه حماسه الوطني نحو مشروع رسم جداريات على مستوى كل المخيمات الفلسطينية في لبنان من أجل تثبيت هذا التواصل البصري اليومي مع الجمهور الفلسطيني والزائرين للمخيمات .
عرفت سليم من خلال هذه الجداريات وتابعت أحواله من خلالها أيضاً، فالرسالة لا تزال هي الرسالة السامية لكن أدواتها تتنوع وتنضج مع تراكم الخبرات ومواجهة العقبات.
اعتاد الفنانون الدنماركيون في فن الغرافيتي على الرسم التقليدي في أماكن مرخصة وأحيانا في أماكن غير مرخصة "التخريب" والتي يعاقب عليها القانون ولذلك كانوا يوقعون بأسماء مستعارة لحمايتهم من المساءلة القانونية إلا أن سليم الذي اعتاد مشاركتهم بذلك، فقد كان يذيل لوحاته باسمه الصريح و كان يرسم عن القضية الفلسطينية بطبيعة الحال ويمتاز بتناول الأحداث الساخنة سواء كانت في الداخل والخارج.
أحد الاحداث الساخنة الجديرة بالذكر، حادثة الإعتداء على المقبرة الإسلامية في كوبنهاجن حيث قام بعض من المخربين العنصريين بتكسير بعض القبور، فذهب سليم إلى المقبرة، وقد وصل قبيل وصول الشرطة والصحافة ورفع يافطة كتب عليها "أيها العنصريون نحن الأحياء لم نسلم من كراهيتكم فدعوا الأموات يرقدون بسلام" سرعة سليم في حضوره للمكان مع اليافطة أثارت فضول الصحفيين فراحوا يسألون حول امر اليافطة إذ بدت لهم أنها كانت مجهزة في وقت مسبق، الأمر الذي ترك عندهم علامات استفهام، وحين سألوا سليم أخبرهم بأنه دائم الجهوزية وفي سباق مع الأحداث وقد أطلعهم على المواد والأدوات الموجودة في سيارته والتي لم تخل منها يوما.. من الجدير بالذكر أيضا ان بعض الجداريات الوطنية، ولا سيما جدارية الانتهاكات في الاقصى التي تناولها في موعدها قد أحدثت احتجاجاً من قبل بعض العنصريين المتعاطفين مع الصهاينة بعد أن فضح بجداريته الممارسات والانتهاكات الاسرائيلية في الأقصى فقاموا بتخريب الجدارية بعد ساعات من إنجازها ما أثار غضب سليم فرد بالمثل وخرّب أعمال الآخرين إلى أن تأزم الحال بين تهديد ووعيد ما أحدث مدخلا لبعض الصحفيين فكتبوا مقالاتهم عن الحادثة تحت عنوان "حرب الغرافيتي" لكن سرعان ما انتهت "الحرب" بأسلوب ذكي بعد رفض سليم المتكرر لمقابلة الصحفيين حرصاً منه على سيرته ومسيرته الفنية التي قد يلطخها الإعلام بهدف حرق ورقته أو إسقاط وجوده.
هذا الإشكال لم يثنه، بل استمر برسم جدارياته و متابعته لقضيته.
أصبحت جداريات سليم لا تحتاج إلى توقيعه حتى تنسب إليه، فموضوع الجدارية وما تحمله من رسائل معنية بقضايا المنطقة وفلسطين تحديدا أصبحت كفيلة بأن تدل على صاحبها.
قبل أعوام قليلة توجه الشارع الفلسطيني إلى انتفاضة ثالثة في الداخل المحتل فجسدها سليم على كامل الحائط تأييداً لها، حصل ذلك بعد مرور سنة على "حرب الغرافيتي" مما أثار نقمة بعض الأحزاب اليمينية المتشددة كحزب DF العنصري مدعوماً بإعلام صبغته مماثلة، وفي خضم المعارك الإعلامية وجد سليم في بعض الاحزاب اليسارية سنداً قوياً له في مواجهة الهجمات العنصرية ضده، وقد أدلوا بمقالاتهم الداعمة لموقف سليم المتكي على حرية التعبير.
الملفت للنظر أن بعد كل الاحتجاجات والمحاولات التي لم تلجم سليم ولم تثنه عن أعماله وإيصال رسائله.. كان قرار البلدية الذي قضى بإزالة جدران الغرافيتي عن بكرة أبيها بما فيها الجدار الذي رسم عليه عاصي جدارية الانتفاضة وذلك بعد ضغط كبير من اللوبي الصهيوني المدعوم من الأحزاب اليمينية المتطرفة بذريعة إقامة مشاريع. والتي لم تر النور حتى الآن. ورد سليم على ذلك بالقول : "شالو الحيط وما قدروا يشيلوني"
تركيا ببعض مواقفها المؤيدة للقضية الفلسطينية منحت سليم الفرصة عله يضع بصمته يوما على أحد جدران اسطنبول. وذلك خلال مشاركته عام ٢٠١٧ بمهرجان فني ضخم ضم عددا من الفنانين الفلسطينيين، حيث رسم جدارية، اشتملت في تكوينها مدينة اسطنبول حاملة بمبانيها ومعالمها اسم فلسطين.
الحديث حول إعادة تجسيد هذه الجدارية لا زال قائما بين عاصي وبلدية اسطنبول، لعلنا يوما نراها مجسدة على أحد مبانيها.
سليم عاصي فنان مقاوم ملتزم بفنه ومثابر على إنجاز لوحاته وجدارياته المعبرة عن قضيته و مأساة شعبه دون كلل أو ملل.
محب لشعبه، مؤمن بقضيته وبأرضه كاملة غير منقوصة. العودة بالنسبة إليه يقين وليست أمنية أو مجرد حلم. رسالته نبيلة وهدفه فلسطين.
كان لقائي بسليم لقاءاً فنياً بحتاً وربما يمكن القول إننا نتشارك الهموم والأحلام ونسعى أن نملك أدوات تخدم قضيتنا وأن يكون فننا مقاوماً بحق. ربما تتاح لي فرصة اللقاء معه في بيروت يوماً ما وأرجو أن يكون هذا اللقاء مساراً لتدعيم القلم والريشة المقاومة.