-1-
لعب فكتور كورتشنوي الكثير من أدوار الشطرنج البديعة. كان أستاذا كبيرا، وبطلا
للاتحاد السوفياتي عدة مرات، ومتحديا لبطل العالم مرتين. وهناك إجماع بين
المتخصصين أن أفضل نقلة نفذها في حياته المهنية كانت... كانت مغادرته من الاتحاد السوفياتي: جنة البروليتاريا الأممية، ومهد القرن العشرين، وقلعة قلاع الصمود والتصدي.
- دفا ماجازينا!
يقول الضابط الروسي بشوش الوجه ممتلئه وقد صعد إلى الباص. أهمس لمأمون: يقصد أنه يسمح للمسلح بمخزنين للرصاص فقط. ثم فكرت: كل الحق على جاري كاسباروف، الشطرنجي البارع، والسياسي المخفق. كان حريا به أن يقول لفلاديمير بوتين: كش مات! لكن من ذا الأحمق الذي يراهن على لاعب شطرنج؟ لا بد أن تعيد قراءة "المقامر"، ثم إن البوكر مربحة أكثر.
في الطريق إلى الشمال، تهنا أربعين سنة. وقيل: بل بضعا وعشرين ساعة، الساعة منها تعدل سنتين إلا قليلا. والتيه رحلة من مجهول إلى مجهول، من عدم إلى رغبة بكينونة ما، من تفريع كلاسيكي إلى نقلة مبتكرة.
ثياب مأمون وحذاؤه الرياضي، قط رامز، شام ابنة مجد، سندويشات سلطان، دفتر نصوصي التي كتبتها في ذات العينين الكستنائيتين.. جميعها كانت جزءا من
الإرهابيين وعائلاتهم، وفي الطريق احتضننا الأبناء البررة (ممن لم يخونوا
وطنهم) بشتائمهم، وحجارتهم، وبصاقهم، وشارات النصر، وأصابعهم الوسطى.
نزل مارك تايمانوف في مطار بلاده عام 1971، ولأول مرة مذ نال لقب أستاذ كبير في الشطرنج يفتشون حقائبه. لماذا؟ أو كما قد يقول علي بن أبي طالب: ما عدا مما بدا؟ لأنه خسر خسارة مخزية أمام الرأسمالي العفن، رمز الإمبريالية العالمية، وسلاح أمريكا المدمر: بوبي فيشر. وعلام عثر المفتشون في حقائبه؟ على نسخة من رواية "أرخبيل الغولاغ" للسوفياتي الآبق المنشق: ألكسندر سولجنستين. اللعنة!
خيانتان متآنيتان. وفورا، صار تايمانوف من المغضوب عليهم، ومن الضالين. خسر امتيازاته السابقة كلها، ولم يعد بطلا من أبطال الطبقة العاملة.
قد تغفر لك الأنظمة المستبدة أغلاطك، لكنها لن تسامحك إن اقترفت الصواب ولو
مرة واحدة. لا! ليست هذه هي العبرة. العبرة أن تايمانوف اعترف بغلطه، وعاد إلى حضن الوطن مكفرا عن جرائمه الشنيعة بكفارة اختارها له البوليتبورو، ليس هذا محل الحديث عنها.
- وما الخيانة التي ارتكبتها أنت؟
- إيش دراني؟
- طيب.. مثلا.. إيش ميولك الإيديولوجية؟
- علماني في السياسة، عقلاني في الدين، اشتراكي في الاقتصاد، عروبي في
العاطفة، إنساني في الانتماء، وصوفي حين أتأمل حشرة.
- ولم يحز المتطرفون رأسك؟
- لم يفعلوا.
- وهل حملت سلاحا؟
- أبدا.
- لم تغادر إذن؟
- ليس لي خبز هنا، والماء زنخ.
- ألست القائل: ليس للفقير وطن؟
- بلى!
- هذا ما اخترته لنفسك إذن!
جميل أن تحاور أحد الأذكياء. والأذكياء في وطني -الذي ليس وطني- كثر، بل إن معظمهم يلامس تخوم العبقرية. وخلال حياتي اللعينة الرائعة شرفني القدر بلقاء قطعان غفيرة منهم، ومما يؤسف له... آه! صحيح، لن آسف على شيء بعد اليوم.