تقرير : الوليد يحيى 
"عمارة الأرامل" في منطقة بغداد الجديدة في العاصمة العراقيّة، تسكنها نحو 17 عائلة معظم ربّاتها نساء فلسطينيات أرامل، ولهذا يُكنّى البناء بوضعهنّ الإجتماعي، الذي يجرّ على أوضاعهنّ المعيشيّة الكثير من الويلات.


في تلك العمارة، التي تفتقر لأدنى أنواع الخدمات، وتأكل  الرطوبة منازلها، ولا تصلها الكهرباء إلّا لساعات قليلة، وفي جحيم حرّها، وانعدام مرافقها الصحيّة، ووجودها بالقرب من مولّد كهرباء ضخم لا يصلها منه سوى دخانه وتلوّثه وضجيجه، تعيش الأرامل في مهبّ النيسان والتهميش والموت البطيء. 

لا شكّ أنّ التردي في الواقع المعيشي والقانوني والأمني، حال يتشاركه معظم الفلسطينيين المتبقّين في العراق والبالغ عددهم نحو 4500 عائلة، الّا أنّ حال ساكنات "عمارة الأرامل"، لا يتوانى مراقب عن اعتباره جريمة قتل بطيء، للاجئات لا حول لهنّ ولا معيل، يتشارك فيها القانون المحلّي في بلد صدّر نفسه منذ خمسينيات القرن الفائت، كبلد مضيف للاجئين الفلسطينيين، رافضاً لعمل وكالة " اونروا" على أراضيه، متعهداً  بالإشراف الكامل على شؤونهم ورعايتهم ومساواتهم بمواطنيه، ليتنصّل من كل تعهداته في عهده الجديد بعد العام 2003. 

أمّا اهتمام المعنيين الفلسطينيين في شؤون رعاياهم، والقصد هنا " السلطة الوطنيّة الفلسطينية ومنظمّة التحرير"، يلخّصه ما قالته إحدى ساكنات العمارة أيّما تلخيص :" لا أمتلك أجرة طريق إلى مقر السفارة لأشكو لهم حالي، وهم على ما يبدو لا يعرفون عنواننا" !

حقّ مقضوم وإذلال 

قسوة استثنائيّة على ارامل منسيّات،  ازدادت استعاراً عليهن، إثر قوانين أدخلتها عدّة وزارات عراقية في تشرين الثاني/ نوفمبر2018 حيّز التنفيذ، منعت عنهنّ حق التمتع برواتب أزواجهنّ المتوفّين والذين خدموا في الدولة العراقيّة وتحت مظلّة قوانينها أعواماً طويلة.

إلهام نافع، لاجئة فلسطينية أرملة من مواليد بغداد، تنحدر من منطقة مزار جنين في فلسطين المحتلّة، إحدى ساكنات " عمارة الأرامل"، وواحدة من القصص الحبيسة في إحدى شققها، تقول لـ"بوابة اللاجئين الفلسطينيين" "إنّ حياتها باتت معتمدة على الصدقات، بعد أن أوقفت الحكومة العراقيّة صرف راتب زوجها عقب وفاته"، وهو الذي عمل مدرّساً ونائباً لمدير مدرسة إعداديّة في بغداد، وقضى بعد 40 عاماً من الخدمة، إثر جلطة داهمته وهو على رأس عمله.

 فقبل صدور قانون استثناء المقيمين العرب من صرف رواتب المتوفين لورثتهم ، حُرمت إلهام من راتب زوجها، وهذا ما يضعه كثيرون في إطار سياسة تميييزية مورست بحق فلسطينيي العراق منذ العام 2003 من قبل الأحزاب السياسية النافذة والمتحكّمة في البلد، وفق أمزجتها وفروضها التي لا تخضع في الكثير من الأحيان لأيّ قانون عام.

تعرض إلهام معاناتها مع الدوائر العراقيّة المعنيّة، خلال محاولاتها تحصيل حقوقها منذ أكثر من عام، حيث تتلقّى معاملة سيئة من إحدى الموظفات، التي تهمّ لطردها من الدائرة وهي تردد " ما الك راتب..اطلعي برة ولا تعودي مرة ثانية"، وتقول إلهام " أنا لا اريد سوى حقوقي فزوجي خدم في الدولة العراقيّة لأكثر من أربعين عاماً فلماذا يحرموننا من راتبه؟".

قلق إيوائيّ مزمن

قلق إيوائي، يُضاف إلى ماسبق، حيث شبح الطرد لا ينفك عن مطاردة الأرامل، بسبب مطالبة صاحب العمارة المتكرر بإخلائها كلّما تأخرت المفوضيّة عن دفع المستحقات، عدا عن تحيّن صاحب المبنى لأيّ خرق في عقد الإيجار المبرم مع المفوضيّة.

 فوفق ما علمت " بوابة اللاجئين الفلسطينيين" أنّ ساكني العمارة لا يستطيعون المبيت خارجها لبضعة أيّام، لأنّ ذلك سيعني أنّهم ليسوا بحاجة للإيواء كلاجئين، طالما أنّ لديهم مكان آخر يستقبلهم، علماً أنّ المكان الآخر قد يكون منزل أحد الأصدقاء بغرض الزيارة ليس الّا.

 تقول إلهام إنّ " المفوضيّة دفعت قبل أيّام مستحقات الإيجار لصاحب العمارة، لكّنها في الكثير من الأحيان تطلب من الساكنين دفعها من جيوبهم، ريثما يتم صرف الأموال من قبل المفوضيّة وسدادها لهم".

وتضيف :" أنّ معظم الساكنين لا يمتلكون قيمة الإيجار وهذا ما يسبب تأخّراً في دفعه لصاحب العمارة الذي يهدد بطردنا منها، الأمر الذي يجعل حياتنا مليئة بالقلق، عدا عن الوشايات التي تصل إلى المفوضيّة كلّما غاب أحد اللاجئين عن منزله لمدّة يوم أو يومين".

وكان آخر تهديد من صاحب المبنى  بإخلائه يوم 22 حزيران/ يونيو الجاري، حيث ناشدت العائلات اللاجئة، مفوضيّة اللاجئين للمسارعة بسداد المبالغ المستحقّة، وهو ما يتكرر في كلّ عام، بسبب مماطلة المفوضيّة، التي تزرع في نفوس ساكني العمارة قلقاً مزمناً يبدد من حياة أراملها، أهم حاجات العيش السوي، وهي الحاجة إلى الأمان.

موت بطيء بانتظار الخلاص

الحاجة خولة جبر من مواليد 1963، موطنها الأصليّ حيفا / فلسطين المحتلّة، أرملة منذ سنوات طوال، أنهكها ظلم التهميش والنسيان، حدّ العجز الحاد، فتُعرّف عن نفسها بالعجوز الخائرة القوى، وهي تعاني من هشاشة في العظام ومشاكل في النظر عدا عن أمراض العصر المزمنة كالضغط والسكّري.

تعرض الحاجة خولة حالها بعد وفاة زوجها، وتقول " أصبحت مسؤولة عن أختي الصغيرة هنادي، وسحر التي اعتقل زوجها في السجون العراقيّة منذ  الأحداث التي شهدتها البلاد عام 2006، وأشعر أنني اموت موتاً بطيئاً"

فقدت الاجئة خولة من يعيلها، بعد مغادرة أخويها الذكور العراق، إثر تهديدات تلقياها كونهما فلسطينيين، في سياق حملات التصفية التي شنّتها الميليشيات المسلّحة على اللاجئين الفلسطينيين بعد العام 2003، ليستقرا في نيوزيلندا.

أمراض تتمكّن يوماً بعد يوم من جسدها، ويحول فقرها دون تمكّنها من تلقّي العلاج اللازم، ولا جهة تقدّم لها الرعاية الصحيّة والأدوية، وتستثنيها المفوضيّة من المعونات الإغاثية دون معرفة السبب، كما تماطل في تقديم الأدوية لها رغم الوعود الكثيرة بذلك وفق ما تؤّكد.

تقول الحاجة خولة إّنها تحتاج إلى علاج خاص، غير متوفّر في البلد إلّا في مستشفيات باهظة التكلفة، ولا توجد أيّة جهة تغطي نفقات علاجها، لذلك هي تنتظر أن يتم النظر في ملف إعادة التوطين المقدم لدى مفوضيّة اللاجئين، فذلك هو أملها الوحيد للخلاص والعلاج.

وتتسائل الحاجة عن سبب المماطلة في النظر إلى ملفّها، علماً أنّ الموافقة على إعادة توطينها في نيوزيلندا حيث يقيم أخواها قد صدرت، إلّا أنّ المفوضيّة في العراق لحد الآن لم تتحرّك خطوة واحدة باتجاه تحريك ملفّها المجمّد منذ سنوات.

معيشة بأقل من دولار في اليوم

وهو مبلغ لا ييكفي  ثمن " العلّاقة" في التعبير العراقي، أي حقيبة التسوّق اليومية التي لا تضم مكوّنات طبق طعام فقير، وبضعة أرغفة من الخبز، وهو ما تعيش عليه معظم ساكنات عمارة الأرامل.

تقول إلهام نافع، إنّ العديد من الأرامل في العمارة يتشاركن في إعداد طبخة طعام فيما بينهنّ، لعدم مقدرتهنّ على فعل ذلك كلّ على حدى، فالموارد الماليّة معظمها تأتي من الصدقات، أو من راتب دائرة الرعاية العراقيّة لبعض الحالات التي تعتبرها استثنائيّة، وهو راتب لا يتعدّى 50 الف دينار عراقيّ أي ما يُعادل 41 دولار أمريكي.

صرخات كثيرة ولا من يستمع

حال دفع هذه الشريحة من فلسطينيي العراق، وبالأخص ساكنات هذه العمارة، إلى إطلاق العديد من المناشدات والبيانات، من أجل لفت الأنظار لحالهنّ، في حين تتجاهل المفوضيّة السامية لشؤون اللاجئين أوضاعهنّ، لا سيّما أنهنّ يمثّلن الحالات الأكثر ضعفاً، والأكثر حاجة لإعادة التوطين (الذي يمنحهن حق اللجوء إلى دولة تؤمن لهن حياة كريمة )،  إالى حين عودتهن إلى وطنهن الأم فلسطين، وفق برنامج الأمم المتحدة الذي خُصص لفلسطينيي العراق.

في أيّار/ مايو الفائت، أطلقت اللاجئات الأرامل، بيان مناشدة موجّه للرئاسات العراقيّة الثلاث، ورجال الدين والمجتمع العراقي، طالبن فيه بإلغاء قرار حرمانهنّ من الرواتب التقاعديّة لأزواجهن المتوفين.

وأشار البيان حينها،  إلى الأثر السلبي الذي خلّفه إلغاء قرار 202 لعام 2001 ، الذي يقضي بمعاملة الفلسطيني معاملة العراقي من حيث الحقوق الإقتصادية، حيث أدى إلغاؤه إلى إرباك حياة الفلسطينيين في العراق، وجعل شؤونه متعلّقة بمزاجيات واجتهادات موظفي الدولة.

وجاء في البيان الذي نشرته " بوابة اللاجئين" نحن النساء الفلسطينيات المقيمات في العراق منذ عام 1948 مضى على وجودنا في العراق اكثر من سبعين عاماً وولد الجيل السادس لنا هنا وكنا نعامل معاملة العراقي منذ النظام الملكي حتى عام 2017".

وأضاف " تفاجأنا بحرماننا من مستحقاتنا من الرواتب التقاعدية لأزواجنا الميتين من دائرة التقاعد العامة، التي تحدث موظفوها بعدم جواز حقنا وأولادنا الأيتام في الراتب التقاعدي بعد عام 2014، ولا نعلم إذا ما كان هناك قرار في ذلك أم اجتهادات لبعض موظفي التقاعد الذي وضعنا في حيرة من أمرنا نتيجة غياب المسؤولية بذلك مما أثر سلباًعلى معيشتنا".

وفي  مذكرة رُفعوها، إلى المفوضيّة السامية لشؤون اللاجئين، في تشرين الأوّل/ نوفمر 2018، طاب وجهاء تجمّع البلديات في بغداد حيث تقيم الكتلة الأكبر من الفلسطينيين، أن تعيد المفوضيّة السامية النظر بملفات إعادة التوطين المقدّمة إلى حكومات الدول الأوروبيّة والأمريكيتين.

ولفتت المذكّرة، إلى ضرورة نظر المفوضيّة إلى العوائل التي فقدت أبناءها خصوصاً الأمهّات اللواتي فقدن أبناءهنّ وأزواجهن بسبب الهجرة، و ضرورة مراجعة ملفات كبار السن الذين تجاوزت أعمارهم 75 عاماً للم شملهم مع أولادهم.

كما أبرزت المذكّرة  غياب المفوضيّة الواضح، في ملف الرعاية لفلسطينيي العراق إن كان من حيث المنح المادية، أو الجانب الصحي خصوصاً لكبار السنّ الذين ليس لديهم معيل.

واقع إحدى الشقق في " عمارة الأرامل" 








خاص _ بوابة اللاجئين الفلسطينيين

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد