يحيى موسى – مخيم الشاطئ/غزة
"بعطوناش غير الأكامول .. وأولادي عشر سنوات ما طلعلهمش بطالة" كلمات ممزوجة بالألم والمعاناة لم تجد أم الديب سواها، مُختصرةً حكايتها في مُخيّم الشاطئ غربي مدينة غزة مع تقليصات خدمات وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا".
أم الديب المدهون واحدة من آلاف اللاجئين في قطاع غزة، الذين طالتهم إجراءات تقليصات خدمات "أونروا" في عدّة جوانب، أبرزها الإغاثة والصحة والتعليم والتشغيل.
بين أزقّة مُخيّم الشاطئ تقف المدهون أمام بيتها لحظة وصولنا، وبدت في عجلةٍ من أمرها، فتقول: "الوكالة لا تُقدّم لنا العلاج المناسب فحين نذهب للعيادات لا يوجد سوى المُسكّنات "الأكامول" وهذا الأمر مستمر منذ عشر سنوات (..) لا يقومون بإجراء الفحوصات أو التحاليل الطبية لنا، فقط يُكتب العلاج مباشرة."
تُشير بيدها نحو "بسطة" لبيع الدخان يملكها أحد أبنائها، تمتزج كلماتها بنبرةِ صوتٍ غاضبة على واقع حال عائلتها: "تقدّم أولادي للحصول على فرصة تشغيل مؤقّت عدة مرات لكن لم يتم قبولهم."
"كما ترى فاتح كشك دخان (سجائر)" .. قالتها قبل أن تُغادرنا، وتحدّث إلينا نجلها أحمد قائلاً: "تخرّجت عام 2014 من قسم المُحاسبة، لكنني ركنت الشهادة في المنزل فلم أحصل لا على فرصة عمل ولا حتى تدريب، ولم أجد سوى بيع السجائر."
أحمد كغيره من آلاف الخريجين في قطاع غزة الذين انضموا إلى صفوف البطالة، اضطر الكثير منهم كما حال هذا الشاب لفتح مشروع خاص حتى وإن كان بيع سجائر.
بيوت متهتكة شاهدة على اللجوء والفقر
عقارب الساعة تُشير إلى الحادية عشرة صباحاً، لحظة وصولنا مُخيّم الشاطئ، عندما تسير بين أزقّة المُخيّم فإنك بحاجة لمُرشد يدلّك كي لا تعود لنقطة البداية بين تلك المسالك والممرات والأزقّة التي لا يتجاوز عرضها متراً أو اثنين، فرافقنا أحد أعضاء اللجان الشعبيّة في المخيم.
بيوت ترفع هامتها أسقف من الصفيح، جدران متصدّعة، وأرضيّات مُتشقّقة عمرها من عمر حكاية اللجوء منذ (71) عاماً، كل ركن في هذا المُخيّم شاهد على معاناة اللاجئين الفلسطينيين، شاهد على مأساة النكبة، واليوم هي شاهدة على تقليصات خدمات "أونروا."
لم يجد اللاجئ، سهيل اللحام، أي مساعد له لترميم بيته المُتهالك على مدار سنين طويلة، حتى غزا الشعر الأبيض رأسه وكبر أبناؤه، بعد أن طرق الستين عاماً تغيرت ملامحه وزارت التجاعيد في وجهه وكذلك تغيّر حال بيته قبل أن يُعيد ترميمه على نفقته، فيقول: "تقدّمت للأونروا، لترميم البيت لكنها رفضت نتيجة ظروف الحصار، وقطعت عني الكابونة منذ أربعة أعوام."
"ليس للكابونة أي قيمة مادية أمام عائلة مُتعددة الأفراد، لكنها تحفظ حقّنا كلاجئين"، يقول سهيل.
سرنا بين تلك الأزقّة والممرات الضيّقة، قابلنا ذلك الطفل الذي ذهب لمدرسته بدون مصروف، وتلك الفتاة الصغيرة التي اعتقدت أننا فريق إغاثي، كما يحدث في مُعظم المُخيّمات لحظة دخول مجموعة من الغُرباء.
حبال كثيرة تتدلّى أمام كل منزل بين حلقتي حديد، تُعلّق النساء الملابس المُبلّلة عليها، حتى تصلها أشعة الشمس التي لا تدخل منازل اللاجئين بسبب التلاصق الشديد بينها.
تضع نسرين حمدونة يدها على خدها في محاولة لتخفيف ضرسها، بالكاد استطاعت الحديث عن تقليصات "أونروا"، فتقول: "كنا نحصل على كابونة صفراء (فقر مدقع) لكن الوكالة حوّلتها إلى بيضاء (غير مدقع)، كما قامت الوكالة بقطع العلاج النفسي كـ "التكرتول، والليثيام"، فقط ما يتم صرفه لنا هو الأكامول."
تقليصات كبيرة
المدير التنفيذي للجنة الشعبيّة في مُخيّم الشاطئ للاجئين، عمر دويك، والذي رافقنا في هذه الجولة، يقول: "إننا نُدير المُخيّم ونتابع موضوعات التعديات داخله، ونحن أقرب الجهات للاجئين نحاول التدخّل بالإشكاليات ونقل شكواهم للأونروا لحلها."
يستعرض دويك تقليصات الوكالة لموقع "بوابة اللاجئين الفلسطينيين" مُشيراً إلى أنّ الوكالة ومنذ عامين أوقفت تقديم أغطية النايلون "الشادر" لحماية أسقف منازل اللاجئين في المُخيّم، لمنع تسرّب مياه الأمطار إليها، علماً بأن غالبيّة منازل المُخيّم أسقفها من "الاسبست"، والكثير من الأدوية تختفي من عيادات الوكالة مُنتصف وآخر كل شهر، فضلاً عن النقص في أدوية الأمراض المزمنة.
وقال: "يتفاجأ الكثير من اللاجئين بقطع المعونة الغذائية "كابونة" عنهم بدون أسباب، اليوم يقوم عمّال النظافة بالوكالة بنقل القمامة من الشوارع الرئيسية بالمُخيّم بعد أن كانوا سابقاً يدخلون إلى الممرّات الداخلية، وكل هذه الإجراءات لاقت تذمراً كبيراً من قِبل اللاجئين."
الخدمات الصحية للاجئين مرهونة بإيفاء المانحين بالتزاماتهم
فيما يستعرض مسؤول دائرة شؤون اللاجئين في حركة "حماس" بقطاع غزة، إياد المغاري، تقليصات "أونروا" خلال عام 2019م، مُبيّناً أنّ تراجع حجم مُساهمات الدول المُموّلة لـ "أونروا"، أثرت سلباً على مستوى خدمات الوكالة وبرامجها.
وأوضح المغاري في حديثه لـ "بوابة اللاجئين الفلسطينيين" أنّ الوكالة ألغت علاج العيون وتقليص الأدوية للأمراض المُزمنة، فضلاً عن إلغاء استيعاب بعض الطلاب في مدارسها باعتبارهم مواطنين وليسوا لاجئين، وتوقّف برنامج خدمات الصحة النفسية المجتمعية، بالإضافة إلى تسريح مئات العاملين فيها أو تحويلهم على بنود العمل المؤقت، وإيقاف العيادات الصحية المتنقلة.
قامت الوكالة، وفق المغاري، بإلغاء أقسام المراكز الصحية (العيادات) الأسنان والعلاج الطبيعي والأشعة والمختبرات تمهيداً لإغلاقها، وإغلاق أقسام تدريب مهنية وفنية في كلية مجتمع تدريب غزة (الصناعة)، وعدم تجديد عقود وظائف مُموّلة من موازنة الطوارئ، وعدم تثبيت حوالي (500) مُعلّم يومي خلال العام الحالي، كما استغنت عن حوالي (200) مُعلّم مُياومة، وخفّضت عدد المُستفيدين من التشغيل المؤقت.
تأثيرات وتداعيات أخرى
حول تأثير هذه التقليصات على سُبل الحياة، أوضح أنها ستؤدي إلى زيادة مُعدلات البطالة بين خريجي اللاجئين، وبالتالي تنامي معدلات الفقر والفقر المُدقع جراء عدم التوظيف وتقليص المساعدات الإغاثية، وتضخّم أعداد الطلبة في الصفوف المدرسية بما يؤثر على نوعية التدريس، وسوء الأوضاع الصحية لفئة الفقراء من اللاجئين الذين لا يستطيعون الحصول على علاج خارج نطاق الخدمات الصحية للوكالة، وزيادة أعداد المرضى مقابل كل طبيب، بما يؤثر على نوعية العلاج.
ويُشير المغاري إلى أنّ الكثير من أبناء الشعب الفلسطيني في قطاع غزة يعتمدون على المعونات والمساعدات التي تُقدّمها لهم وكالة الغوث الدولية (الأونروا) في توفير الحد الأدنى من احتياجاتهم الأساسية مثل الطعام والشراب والعلاج والتعليم، فضلاً عن المساعدات الطارئة في ظل الحصار الخانق الذي يعيشه اللاجئون منذ أكثر من ثلاثة عشر عاماً بفعل الاحتلال الصهيوني.
وبيّن أنّ خدمات "أونروا" لا تقتصر فقط على توقّف الخدمات الإغاثية للاجئين الفلسطينيين، بل إنه يُمثّل كذلك مساساً بحقهم في العودة، حيث ارتبط وجود الوكالة منذ نشأتها بتقديم الخدمات إلى اللاجئين الفلسطينيين إلى حين إيجاد حل عادل لقضيّتهم وفق قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم (194) والذي يقضي بحق هؤلاء اللاجئين بالسماح لهم بالعودة إلى الأراضي التي هُجَروا منها إبان نكبة 1948.
وأكد المغاري أنّ وجود "الأونروا" يعني استمرار التعامل والاعتراف بهؤلاء الفلسطينيين كلاجئين، وليس التعامل معهم على أنهم أصبحوا من سكان الأراضي التي هُجّروا إليها عبر توطينهم فيها، بما يعني إنهاء قضيتهم.
كل ما سبق يؤكد أنّ الأزمة التي تمر بها "أونروا" هي أزمة سياسية وليست مالية بالدرجة الأولى، بل إنّ العجز المالي كان نتيجة لقرارات وخُطط سياسيّة هدفها تصفية قضية اللاجئين، وأنّ استهداف "أونروا" هو استهداف لقضية اللاجئين الفلسطينيين، فالأونروا هي الشاهد التاريخي لقضية اللاجئين وتعبر عن اعتراف المجتمع الدولي بقضيتهم، وفق المغاري.
هذا وطالب المغاري المجتمع الدولي والدول الأعضاء في الأمم المتحدة بدعم "أونروا" مالياً وسياسياً والتصويت لصالح تجديد ولاية جديدة لها حسب التفويض الممنوح لها بالقرار (302)، لدورها الحيوي والهام باعتبارها الجهة الدولية الوحيدة المعنيّة بإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، وأنّ الوظيفة التي أنشئت من أجلها لا زالت قائمة مع غياب الحل السياسي لقضية اللاجئين الفلسطيني طبقا لما ورد في القرار (194).
كما طالب الدول المانحة بالوفاء بالتزاماتها المالية نحو وكالة الغوث، وتأمين التمويل اللازم والكفيل بتطوير خدمات الوكالة وتحسينها، بما يستجيب لحاجات سكّان المُخيّمات وتجمّعات اللاجئين، ويوفر لهم الحياة الكريمة إلى حين عودتهم الى أرضهم وديارهم التي هُجّروا منها قسراً بفعل الإرهاب الصهيوني.
شاهد الفيديو