مخيم العروب – خاص
لا شك أنه كان كغيره من أبناء مخيم العروب والمخيمات الفلسطينية الممتدة على طول الضفة الغربية وقطاع غزة وسوريا والأردن ولبنان، كان يحلم باستنشاق رائحة تراب قريته التي احتلها الصهاينة عام 1948، محولين اسمه إلى "لاجئ" .
لم يكتفوا بذلك، قتلوا الحلم الذ لم يتجاوز 22 عاماً بدم بارد، دون التفكير ولو للحظة، ببشاعة أن يحولوا اللاجئ عمر هيثم البدوي الذي خرج إلى أمام بيته في المخيم ليزيح زجاجة المولوتوف قليلاً عن أسلاك كهربائية متدلية، إلى ضحية مرة ثانية، مرة حين سلبوا منه أرضه وأخرى حين سلبوه الحياة بإطلاق النار عليه دون أدنى تردد.
لاقى عمر الشهادة وتحولت أمه التي لم تستطع سوى ترديد كلمات الرضى خلال وداعه إلى أم الشهيد، وانضمت بذلك إلى كوكبة من الأمهات الجميلات التي تزخر بهن فلسطين من أقصى شمالها إلى أقصى جنوبها، ومن أبعد ما تصل إليه جغرافيا المنافي إلى أقرب المخيمات.
لن ينشر موقع "بوابة اللاجئين الفلسطينيين" كلمات هذه الجميلة خلال التشييع حفاظاً على خصوصية حزنها، فإن كان دم الفلسطينيين على يد المحتل مباحاً بفعل برنامج سياسي رسمي وفصائلي هزيل، وتواطؤ عربي ودولي، لن يسمح لحقه في الحزن أن يستباح، ما دام الانتقام لدم الشهيد غير وارد على الأقل في أجندة السلطة الفلسطينية، التي صدعت رؤوس الفلسطينيين بتكرار قراراتها حول وقف التنسيق الامني مع الاحتلال، فيما ظلت القرارات حبيسة الورق الذي كتبت عليه، والأفواه التي تلفظت بها.
وربما هذا، ما يحز بمرارة في نفوس الفلسطينيين، ولم يستطيعوا سوى التعبير عنه في هتافاتهم خلال تشييع الشهيد.
لا يعقل أن يبقى التنسيق الأمني قائماً
هي كلمات معظم الفلسطينيين الذي يبدون في سلوكهم وشعاراتهم حفاظاً على السقف السياسي الوطني الثابت، بالمقاومة والتحرير والعودة، مخالف لما قد يقال في أروقة السياسية طالما أنها لا تلبي طموحاتهم الوطنية، فيأخذون زمام المبادرة ويتوجهون إلى نقاط الاشتباك مع الاحتلال.
والجدير بالذكر هنا، أن هذا ليس مجرد كلام منمق في تقرير إخباري، بل هو حقيقة ثابتة بجسدها الشباب الفلسطيني في كل مناسبة، كما جسدها أمس في إحيائه ذكرى استشهاد الرئيس ياسر عرفات الـ15 ، بأن يواجه هذا الاحتلال ولو بصدور عارية في نقاط اشتباك باتت معروفة على مساحة الضفة الغربية هو الطريق الأجدى الذي يحفظ كرامة الفلسطيني أولاً، ويليق بطموحه ثانياً، وفق ما يؤكدون أنفسهم.
في هذا السياق، يقول الناشط السياسي عماد ابو شمسية، في حديث مع "بوابة اللاجئين الفلسطينيين"، إنه لا يمكن ولا يعقل أن يبقى التنسيق الأمني مع احتلال يرتكب هذه الجرائم البشعة، ولذلك فإن الفلسطينيين مصرون في كل مناسبة أن يذكروا بأن هذا التنسيق يقتلهم كما تقتلهم رصاصة الاحتلال.
لذلك، هم في حلّ من هذه الاتفاقيات التي لم تعلقها السلطة بعد رغم الإعلان المتكرر، ويجسد ذلك ما يجري من مواجهات شبه يومية مع جنود الاحتلال، يصفها الناشط السياسي "بديع دويك" بإنها إثبات للمقاومة الفلسطينية كجزء من ديمومة ووجودية الشعب الفلسطيني على أرضه.
الاحتلال وملادينوف يعترفان: البدوي لم يكن يشكل خطراً
وربما هي الحقيقة التي لا تنوي حكومات الاحتلال وقيادة جيشه المتعاقبة استيعابها، إذ ككل مرة تحاول ذر الرماد في العيون - بعد أن يكون قد أعطي الجيش تعليماته بالقتل المباشر - عبر سيناريو "فتح تحقيق" في قتل الفلسطينيين.
التحقيق هذه المرة، وفي نتائج أولية اعترف بأن الشهيد البدوي لم يشكل خطراً على الجنود المنتشرين حول مدخل مخيم العروب.
الجيش الصهيوني أقر"لم يعرض حياة الجنود للخطر وأنه لم يكن ينبغي أن تستخدم القوات الرصاص الحي".
ووفق الموقع الإلكتروني لصحيفة "هآرتس" العبرية، فإن "الشرطة العسكرية فتحت تحقيقاً في ظروف الحادث"، موضحاً أن "التحقيق الأولي أجري ضمن "الوحدة العسكرية" بناء على مشاهدة مقاطع الفيديو واستجواب القوات المشاركة في المواجهات في العروب".
ولكن، ككل التحقيقات التي يجريها جيش الاحتلال مع نفسه، لا يتوقع الفلسطينيون أن يحاسب الجندي القاتل، ولا أن تتعدى قضية التحقيق هذا الحد.
ومن السذاجة بمكان، ألا يكون ذلك معروفاً، لدى المجتمع الدولي وعلى رأسه الأمم المتحدة التي صدم مبعوثها الخاص إلى الشرق الأوسط "نيكولاي ملادينوف" من فيديو إعدام الشهيد البدوي، مطالباً في تغريدة له بفتح تحقيق في حادثة القتل.
ولكن حتى لو لم تثمر التحقيقات، واكتفت الأوساط الفلسطينية الرسمية والفصائلية وكذلك العربية والدولية بالإدانات والاستنكارات المكتوبة، كما هو متوقع، يبقى الفيديو المؤلم الذي صوّر للشهيد لحظة إصابته، شاهداً ماثلاً أمام التاريخ على حادثة واحدة فقط من الجرائم الإسرائيلية اليومية التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي بحق الفلسطينيين.
وهذا الفيديو أو التصوير جزء هام من المقاومة التي يمارسها جيش من الصحفيين المنتشرين في أنحاء فلسطين لتوثيق الجرائم، وهو ما أكده مراسلنا ومن معه من الصحفيين الذين صوروا الجريمة للحظة، ومن ثم خلعوا كاميراتهم ليحملوا الشهيد إلى السيارة، علهم يستطيعون إنقاذ حياته.