سوزان سليمان – كندا
لا مهرب للفلسطيني من اللجوء، طالما لم يعد إلى أرضه الأصلية في فلسطين المحتلة عام 1948 بعد.
اللجوء رافق الفلسطيني منذ ولادته في الشتات، وأجبره البقاء بعيداً عن قريته أو مدينته الأم في فلسطين في حالة عدم استقرار، إن لم نقل حالة ظلم أو اضطهاد، ويظل اللجوء الفلسطيني في لبنان غير مشابه لأي لجوء فلسطيني آخر.
وترى الغالبية العظمى من اللاجئين الفلسطينيين في لبنان أن الحل الوحيد متمثل بالهجرة إلى أي دولة تحفظ لهم حقوقهم الإنسانية، إلى حين عودتهم لفلسطين.
وفي ظل غياب أي دور واضح لمنظمة التحرير الفلسطينية، المفترض أنها تمثل الكيان السياسي لهؤلاء اللاجئين الفلسطينين -الذين تناقص عددهم في العامين الماضيين- يزرح مئات آلاف الفلسطينيين في لبنان تحت وطأة الفقر الذي ارتفعت نسبته بقوة لتتجاوز 70 بالمائة، فيما البطالة تفتك بما تبقى لهم من أمل للعيش في هذا البلد الذي يعاني أيضاً أزمته الاقتصادية.
غير أن ملامح الأزمة تظهر بوضوح أكبر على اللاجئ الفلسطينيي لأنها لاحقة لمجموعة قوانين وقرارات حكومية حدت من قدرة الفلسطينيين على العيش بشكل صحي.
لجوء عائلة حجازي إلى كندا... عبر بوابة "العم سام"
بعد موجة اللجوء الصامت وانتشار مكاتب السفريات والسماسرة في لبنان لتسهيل تأشيرات سفر للفلسطينيين إلى دول أوروبية، وما تبع هذه الموجة من جدل واتهامات، وجد بعض اللاجئين الفلسطينيين في لبنان طريقاً آخر للهجرة غير الشرعية، ولكن هذه المرة إلى كندا عبر المرور عبر المرور ببلاد "العم سام".
هي ليست بالطريق السهل، كما يظن البعض، فعائلة حجازي المكونة من ثلاثة أفراد قررت الحصول على تأشيرة سفر أمريكية بعد أن ضاق بها الحال في لبنان، خاصة مع تصاعد الانتفاضة الشعبية المطالبة بتحسين أوضاع البلاد.
ليس بإمكان أي شخص أن يحصل على تأشيرة دخول إلى الولايات المتحدة، إذ يجب أن تثبت في القنصلية أن اللجوء أو البقاء في أمريكا غير وارد في تفكيرك، وعلى الأغلب هذا يحتاج الكثير من المال والضمانات المادية.
يقول رب العائلة التي وصلت كندا مؤخراً، "أن الحل الوحيد كان بالدخول إلى الأراضي الأمريكية بتأشيرة سياحية"، وهذه تحتاج مالاً كثيراً، نسبة تتجاوز 90% من الفلسطينيين في لبنان لا تمتلكه، لتبدأ بعدها رحلة اللجوء التي لم تكن بالسهولة المتوقعة إلى كندا.
نعم هي ليست كرحلة قارب الموت، ولكنها رحلة تحمل المضمون نفسه، أي "المجهول"، يأمل كل من يختارها أن تصل به إلى بر الأمان.
رب العائلة الذي لم يرغب بالكشف عن اسمه يؤكد "الحدود الأمريكية الكندية غير الشرعية مفتوحة أمام الجميع من عدة ولايات ومدن أمريكية، ولكن البحث عنها ليس بالسهل، والوصول إليها يعد الأصعب والأطول".
رحلة لجوء العائلة، استغرقت 7 ساعات سفر بالحافلة، باتجاه الحدود الأمريكية – الكندية.
يصف الزوج والزوجة مشاعرهما وهما يسعيان إلى اللجوء الذي سميانه "لجوء بطعم الإنسانية"، بالمشاعر المركبة الممزوجة بالخوف والأمل، فتوقعات الفشل كانت مرافقة دائماً لهما، ليس إحباطاً، بل لأنها رحلة غير واضحة المعالم، محفوفة بالمخاطر، ولاسيما مع وجود احتمال كبير بإعادتهم إلى لبنان وحرمانهم من دخول الولايات المتحدة لسنوات عدة في حال كُشف المخطط، إلا أن العائلة أيقنت أن هذه هي الفرصة الوحيدة التي تملكها للنجاة بما تبقى لها من حياة.
آخر محطة.. بداية لجوء جديد
توقفت الحافلة عند وجهتها الأخيرة، وتوقفت معها كل الأفكار وزادت نبضات القلوب وعم الصمت والنظرات بين أفراد العائلة، وما إن اقتربوا من النزول من الحافلة علت أصوات تردد وتقول: "إلى الحدود إلى الحدود"...
فهؤلاء هم أصحاب سيارات الأجرة الذين اتخذوا من هذه المنطقة عملاً مربحاً لهم، لاسيما مع ازدياد عدد اللاجئين من مختلف الجنسيات الهاربين من جحيم بلدانهم.
تذكرة رحلة المحطات هذه للوصول إلى ما يصفونه بـ"طوق النجاة المرجو" مكلفة نفسياً ومعنوياً ومادياً، وإذا ما اجتزت المحطة الأخيرة، دخلت حكاية اللجوء الثاني .
يقول رب العائلة "بفضل من الله، تمكننا من عبور الحدود، ورغم الفرح إلا أنها كانت صدمة لنا، استقبلتنا الشرطة الكندية بترحيب، لم توضع لنا أصفاد عندما احتجزنا، وتم التعامل معهنا بإنسانية، لم نعتد عليها في البلاد العربية، ولم نكن نتوقعها، فنحن ندخل بلادهم بشكل غير شرعي".
اللجوء في كندا يختلف عن اللجوء إلى دول أوروبا بشكل عام، وربما ما اعتدنا سماعه ورصده في وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، من أخبار ترحيب الحكومة الكندية بشكل دائم بالمهاجرين واللاجئين بغض النظر عن طريق دخولهم إلى أراضيها، لا يجافي الحقيقة، بل فيه شيء من الدقة نوعاً ما.
فهذه الدولة بمساحة جغرافية واسعة وعدد قليل من المواطنين، باتت بحاجة إلى أيدي عاملة، وموارد بشرية تساعد في النهوض التنموي.
وأشار إلى ذلك صراحة وزير الهجرة الكندي أحمد حسين في تقريره السنوي لبرلمان بلاده مطلع العام الحالي بالقول:"مع ارتفاع معدلات الأعمار وانخفاض معدلات الخصوبة، تلعب الهجرة دوراً هاماً في ضمان استمرار نمو سكان كندا وقوتها العاملة، ومستويات الهجرة المتزايدة، لاسيما في الطبقة الاقتصادية، ستساعدنا في الحفاظ على قوة العمل لدينا ودعم النمو الاقتصادي وتحفيز الابتكار".
وقال ممثل مفوضية شؤون اللاجئين في كندا جون نيكولاس بوز، في حديث لأخبار الأمم المتحدة، في بداية العام الجاري، إن بلاده ستستقبل في 2019، أحد عشر ألف لاجئاً من أنحاء مختلفة من العالم.
لم تصدر إحصائيات حديثة من مؤسسات فلسطينيية حول أعداد الفلسطينيين الموجودين في كندا، أو أولئك الذين وصلوا البلاد حديثاً كلاجئين، ولكن عددهم ليس بالكبير مقارنة مع غيرهم من الجنسيات.
يؤكد وزير الهجرة الكندي أن بلاده ستستقبل نحو 370 ألف مهاجر في عام 2021 فقط، وأن 48% سيتم استقبالهم لسد النقص الذي يعاني منه سوق العمل.
ولكن هذه التصريحات المثيرة للتفاؤل بالنسبة لأشخاص، لا يجدون حلاً لإعادة ترتيب حيواتهم سوى اللجوء، لا تعني أن الأرض ستكون مفروشة للاجئين بالورود فور وصلوهم إلى كندا، حيث إن معاملات اللجوء طويلة المدى وقد لا يتم الموافقة على طلب لجوئك، إن لم تقنع المعنيين في الحكومة بوضع إنساني معين، أو قدرة على التطوير في مجتمعك الجديد.
حقوق إنسانية لا تلغي حق العودة
معاملات اللجوء تبدأ منذ أن تطأ قدماك الأراضي الكندية، هي عملية طويلة وتستغرق وقتا وجهداً، ولكن في المقابل أن تكون لاجئاً في كندا -وحتى قبل الموافقة على لجوئك- يعني أن تتمتع بكامل حقوقك وأن تقوم بواجباتك كأي مواطن كندي، والفارق الوحيد بينهم، هو عدم القدرة على الانتخاب أو السفر خارج البلاد لحين الموافقة على اللجوء إن كان إنسانياً أو سياسياً.
يحمل أفراد عائلة حجازي اليوم بطاقة "لاجئ يقيم في كندا لحين دراسة ملفه"، تتنعم برعاية حكومية تشمل الطبابة والتعليم المجاني والخدمات الاجتماعية المقدمة من مختلف الجهات المدعومة من دائرة الهجرة واللجوء في كندا.
وكما الإيجابيات سيكون هناك سلبيات بالحد المعقول، خاصة أن الوصول إلى بلد جديد يعني الانفتاح على مجتمع متنوع والتأقلم لحين إيجاد الاستقرار وهذا سيستغرق وقتاً، "إلا أن هذه كلها عوائق لا تذكر أمام ما يعيشه اللاجئون الفلسطينيون في لبنان، من انعدام للاستشفاء الكامل، وعدم وجود ضمان اجتماعي، وعدم القدرة على الحصول على وظيفة محترمة، براتب جيد"، يقول رب العائلة.
حال عائلة حجازي، كحال الآلاف من أبناء الشعب الفلسطيني في الشتات، فهم لم يختاروا كندا ولا لبنان كوطن بديل عن فلسطين، ولكن هذه المرة اختاروا وبملئ إرادتهم لجوءاً إنسانياً يضمن لهم حياة كريمة، وطريقاً معبدة ومفتوحة للقدس، الحلم الذي قد يتحقق بالنسبة لهم إذا ما حصلوا على الجنسية الكندية.
ستزول عنه "لعنة لاجئ" وستفتح أمامهم أبواب مطارات دول العالم، ليزوروها ويحملوا معهم قضيتهم الفلسطينية أينما ذهبوا.
ليس كل اللاجئين الفلسطينيين في لبنان أو سوريا، قادرين على المضي في الطريق الذي سكلته عائلة حجازي، وليس جميعهم لديهم الرغبة في الهجرة، حتى في ظل أوضاع صعبة يعيشونها، لكنها تبقى حكاية عائلة فلسطينية من الجيل الثالث للنكبة، وجدت طريقها الذي تراه إلى النور، الذي سيقودها ولو بعد جيل آخر إلى فلسطين.