في سياق عدد من المسارات المتداخلة، والجذور الضاربة، في طبيعة العلاقات الفلسطينية – الأردنية، وفي صفحات تاريخ اللجوء الفلسطيني في الأردن، هنالك عدد من الصفحات المهملة تاريخياً، والتي يجهلها الجيل الحالي، أي الجيل الرابع من الفلسطينيين في الشتات.
ولأن فهم التاريخ والعودة له، هي مفتاح العمل للخروج من الواقع، وصناعة خطاب المقاومة والتحرير، ولأنّ التاريخ الفلسطيني، لا يقتصر على تاريخ الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، في فلسطين، قبل النكبة، أو "اللجوة"- كما تسميها عجائز البلاد- بل يتعداه إلى تاريخ الشعب الفلسطيني بكل تفاصيله، في الشتات المتوزع بين مختلف دول العالم، فلا بدّ من فتح تلك الصفحات التي يشكل النبش فيها جزءاً من فهم وتكوين الهوية النضالية الفلسطينية لفلسطينيي الشتات والمنافي.
"اللجوة" و"النزحة"
قد لا يدرك معظم الجيل من الشباب الفلسطيني، في الشتات، وفي الأردن تحديداً أنّ خارطة المخيمات الفلسطينية في الأردن قبل العام ١٩٦٧، مختلفة عمّا سبق هذا التاريخ، فبعد عام ١٩٤٨، لجأ حوالي ٦٩٩٢٠ فلسطينياً، معظمهم من اللد والرملة، وقرى القدس والخليل وحيفا ويافا وبيسان، إلى شرقي الأردن، التي كانت لا تزال مملكةً فتية لم تتجاوز العامين من عمرها.
تركز معظم اللاجئين الفلسطينيين في الأردن، والذين شكلوا ١٠٪ من مجموع اللاجئين الفلسطينيين في العالم، في عمّان، حيث سكنوا قبل عام ١٩٥٠ في منطقة رأس العين، وعلى سفح جبل اللويبدة، فيما توجه جزءٌ آخر منهم وأنشأ الأحياء في جبال عمّان، كأهالي بيت محسير وعين كارم وعمواس، تلك القرى المقدسية المهجرة، وأنشؤوا ٣ أحياء خاصة بهم في جبل التاج، شرق عمّان، أما ما تبقى من لاجئين في العاصمة الأردنية، فقد تم نقلهم للإقامة في مخيمين خارج حدود عمّان القديمة، وهما مخيم الحسين، ومخيم عمّان الجديد، الذي أضحى اسمه لاحقاً مخيم الوحدات.
أما من توزعوا في محافظات الزرقاء والبلقاء واربد، فقد أنشأت لهم وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا" بالتعاون مع الحكومة الأردنية مخيمات: السخنة، والزرقاء، والكرامة، واربد.
بعد ١٩ عاماً من "اللجوة" الفلسطينية، والتغريبة كان من تبقى فيما تبقى من فلسطين على موعدٍ مع "النزحة" في عام ١٩٦٧.
مخيمات الطوارئ واللاجئ الذي قرع جدران الخزان
في المشهد الختامي من رواية رجال في الشمس، للشهيد غسان كنفاني، صور كنفاني حالة التيه، وفقدان الإرادة، التي عاني منها اللاجئون الفلسطينيون، أو قسمٌ منهم في الفترة بين عامي 1948 و1967، بهؤلاء الرجال الثلاثة الذين قضوا نحبهم في صهريج الماء على الحدود العراقية – الكويتية، حيث بلغ منهم الحر والعطش مبلغه، ولم يمارسوا أي فعلٍ للنجاة ولو بقرع جدران خزان الصهريج، الذي كان فيه حتفهم، وكأن غسان قد كتب مع نهاية هؤلاء الرجال الثلاثة في روايته، ولادة الفلسطيني الجديد الذي حمل السلاح وامتشقه واعتمد على نفسه، ومن سانده من شعوب الأرض، بعد عام 1967.
فبعد صدمة نكسة حزيران/يونيو ، ونزوح أكثر من نصف مليون فلسطيني إلى شرق الأردن، تحت صدمة وسكرة الشعارات البراقة، تميزت "النزحة" أو موجة اللجوء الثاني بعدة سمات منها، توجه معظم اللاجئين الفلسطينيين، القادمين من مخيمات الضفة الغربية للسكن في مخيماتٍتقع في أقرب نقطة من الأرض المحتلة، فكانت مخيمات الطوارئ الذي كان لاسمها نصيبٌ من التعامل معه، فالفلسطيني اللاجئ اعتبرها حالة طارئة، كما سعى الاحتلال وأطرافٌ أخرى لذلك، ولكن الشدّ ما بين هذين الطرفين كان عكسياً.
توزعت مخيمات الطوارئ الفلسطينية على طول الأغوار الأردنية، ففي الأغوار الشمالية كانت مخيمات: الصوالحة، والمثلث المصري، والشونة الشمالية، أما منطقة معدي الواقعة إلى الغرب من محافظة البلقاء وعلى مقربةً من جسر دامية، فقد أنشأ اللاجئون الفلسطينيون فيها مخيم معدي، وعلى بعد كليومترات قليلة منه، كان مخيما الشونة الجنوبية والكرامة الجديد.
لم يكن قرب مخيمات الطوارئ من فلسطين المحتلة المميز الوحيد لها، بل إنّ تلك المخيمات شهدت ولادة المجموعات الفدائية الأولى التي قاومت المحتل الإسرائيلي، وشرعت بتنفيذ العمليات ضده بعد العام 1967، ففي مخيم الكرامة الجديد مثلاً، يروي لنا أبو كفاح، عبد الله أبو فرحان، كيف تشكلت المجموعات الفدائية الأولى للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وكيف تم تقسيم اللجان في المخيم إلى عسكرية، وأخرى شبابية تثقيفية، ليجتمع القلم مع البندقية في تلك المحاضن الأولى للعمل الفدائي المقاوم للاحتلال الصهيوني.
مصير مخيمات الطوارئ
على الرغم من العديد من التصريحات الدولية والعالمية والعربية بأنّ ما يجري عبر النهر من عملٍ فدائي، مجرد هبة عابرة لن تستمر طويلاً، إلّا أنّ التوقعات الدولية خابت بعد تصاعد العمل الفدائي، واتخاذه طابعاً تنظيمياً، وتعرض المستوطنات الصهيونية من بيسان، وحتى أريحا لهجمات صاروخية شبه يومية، وعمليات استهداف بالعبوات الناسفة والكمائن، ما دفع الاحتلال الصهيوني والمخابرات الأمريكية المركزية، وعملائها في المنطقة للتفكير ملياً بآلية لتصفية الوجود الفلسطيني القريب من الأغوار.
بدأ الاحتلال الصهيوني منذ شهر ١/١٩٦٨ بشن هجمات شبه يومية استهدفت مخيمات الطوارئ، كان أعنفها الهجوم الذي وقع على مخيم الكرامة في ١/٣/١٩٦٨، واستمر لمدة ١٢ ساعة، وغيرها من الهجمات، وبفعل العديد من الضغوط الدولية والسياسية والعسكرية، بدأت السلطات الأردنية و"أونروا"، بنقل اللاجئين الفلسطينيين، إلى مخيمات عدة خلف التلال المطلة على فلسطين، وفي بطون أودية غير مطلة عليها، وهي مخيم البقعة شرق السفوح الشرقية لمحافظة البلقاء، ومخيم الحصن الواقع شرق الطريق الدولي بين عمّان وإربد، ومخيم سوف في محيط مدينة جرش الأردنية.
وعلى الرغم من طي تلك الصفحة باكراً في تاريخ الوجود والنضال الفلسطيني، إلّا أنّها تبقى حيةً بمن عاش تلك الأيّام والسنوات من الجيل الثاني من اللاجئين الفلسطينيين، وفي ثنايا تلك الصفحة الآلاف من حكايات البطولة والصمود، والغدر، والوفاء.