عالم مستفزّ بتناقضاته، مشهديّات مختلفة للعيش البشري وفعالياته وسلوكياته، هوّة كبيرة في تفاصيل الحياة وعمومياتها بين تلك الخاصّة ببشر "العالم الأوّل" وبين من يقبعون تحت نير الاستبداد والاحتلال في بلادنا العربيّة، أو عموم "العالم الثالث" وهي التعبيرات التي يعتمدها اللاجئ الفلسطيني نضال التوبة، خلال حديثه عن صدمته التي تلقاها حين وطأت أقدامه البر اليوناني، حيث وصل لاجئاً، واستقر به الحال في ألمانيا قبل سنوات.
صدمةٌ، لم يكتمها نضال، وراح يعبّر عنها على طريقته، بأسلوب متفرّد في دمج الصور التي تجمع بين مشهديتين متناقضتين، في محاكاة مُدهشة، بين ثنائيات الحياة والموت، الفرح والألم، القمع والحريّة، التشرّد والاستقرار، لا يفصل بينها سوى خطٌّ وهمي في فضاء الصورة، تاركاً للمتلقّي أن يجول في أبعادها ودلالاتها.
يتذّكر نضال، أولى محفّزاته لاتباع أسلوبه في التصميم، حين لمس بنفسه حجم الهوّة الكبيرة، بين نحو 160 شخصاً وصلوا للتو إلى برّ جزيرة "ميتيليني" قبل أعوام -وكان واحداً منهم- وبين روّاد الشاطئ السياحي، الذين استقبلوهم بنظرات متعجّبة لمناظرهم الغريبة، وبعضهّم همّوا لالتقاط الصور لهم، قبل أن تقوم الشرطة السياحية بطردهم من المكان.
لربّما بدت الشرطة في تصرّفها، وكأنّها تنتزع عنصراً غريباً عكّر نقاء الصورة، وهو موقف انعكس في العديد من أعمال نضال، وكأنّه يحاول إخبار الوعي العام عن التناقض، بأنّه أصيل في وجوده، مهما حاولت أجهزة ومنظومات سلطويّة خلق نقاء ما في فضاء محدد.
يروي نضال في حديثه مع "بوابة اللاجئين الفلسطينيين" موقفاً وصفه بالمضحك المبكي، حين اقترب منهم أحد السيّاح، بدا من هيئته ولغته أنّه عربيّ، وسألهم :"أنتم الذين تجيئون عبر البحر" فأجابوه "بلى نحن" فأشار إلى إبنه إليهم قائِلاً له :" هؤلاء من تراهم في التلفاز".
رحلة حوّلت همومه إلى "عالم ثالثيّة"
يبدو أثرها واضحاً، في أعمال اللاجئ الفلسطيني السوري الذي وُلد وترعرع في مخيّم العائدين للاجئين الفلسطينيين في مدينة حمص، وتعود جذوره إلى بلدة صفّورية في فلسطين المحتلّة، تلك الهموم المركّبة التي حملها، سواء القادمة من فلسطينيته، أو النابعة من سوريّته، وما أضيف إليها من هموم اللاجئين والمُهاجرين في أوروبا الذين أضحى واحداً منهم، ليحمّل نفسه، هموم العالم الثالث، فنجد أعماله تضم العراق واليمن وافريقيا، ومظلومي الروهينغا وسواهم.
"لم يكن ببالي سوى إيصال ما شاهدته من فوارق" يقول نضال، الفوارق التي لمسها، ومفادها:" كيف صرنا نشاهد أناساً مرتاحين، لديهم كهرباء 24 ساعة، ويستمتعون بإجازاتهم، وتساعدهم حكوماتهم، وهو ما لم نكن نراه في بلادنا".
رحلة لجوء مليئة بالمحطات والمعاناة والمغامرات، بدأت منذ لحظة خروجه من سوريا، وقبل ذلك، عاش نضال عاماً كاملاً يُعالج جُرحاً أصابه خلال أحداث فضّ الاعتصام السلمي الشهير في ساحة الساعة بمدينة حمص عام 2011، حيث تلقّى رصاصتين عالج أثرهما في مستشفىً ميداني بالمدينة.
ينجح نضال في الخروج من سوريا إلى لبنان، التي قضى فيها 3 سنوات، متعثّراً بوثيقة سفره الفلسطينية الصادرة من سوريا، والتي حوصر بانتهاء صلاحيتها، ليجد أخيراً منفذاً باتجاه تركيّا ومنها إلى اليونان، محطته الأخيرة، قبل وصوله إلى ألمانيا، حيث يقيم حاليّا في بلدة غوسلار الريفيّة.
في ألمانيا، يتفجّر ما اختمر في عقل ونفس نضال، من مشاهدات وإدراكات عميقة، للفوارق والتناقضات، ومقارباته بين ما خبره وعايشه وتلقاه في بلاده وأخبار البلاد التي تشبه بلاده وخلال رحلته، وبين ما وجد الحياة عليه في أوروبا، فكانت مقاربة قضايا الاحتجاج والقمع أولى مواضيع أعماله.
يقول نضال:" بدأت القصة حين بدأت تظاهرات السترات الصفر في فرنسا، ومشاهدتي لحالة الغضب الفرنسية، ولمعت في رأسي فكرة إنتاج صورة تقارب بين التظاهرات السلمية في سوريا وما هي عليه في فرنسا" فكانت هذه المقاربة أولى أعماله التي نشرها على موقع " انستغرام".
لم يمتلك نضال سوى هاتف محمول، كان أداته في إنتاج فكرته، التي لاقت تفاعلاً كبيراً على مواقع التواصل الاجتماعي وخصوصاً " انستغرام" وهو ما شجّعه على الاستمرار في إنتاج المزيد من الصور، حسبما قال لموقع "بوابة اللاجئين الفلسطينيين".
استفزاز "غوغل" دفعه لتطوير أسلوبه
من أسلوب دمج الصور ومحاكاتها، إلى تصميم الغرافيك، وهو مشروع كان نضال بعيداً عنه، حسبما قال لـ" بوابة اللاجئين الفلسطينيين" إلّا أنّ ما وصفه بإستفزاز شركة "غوغل" للفلسطينيين بحذفها اسم فلسطين عن خرائطها، قد دفعه لتطوير أدواته وولوج عالم تصميم الغرافيك.
وردّاً منه على إجراء شركة " غوغل" نشر نضال التوبة تصميماً، يحاكي ثيمة الإشارة إلى الموقع، التي تظهر لتحديد المواقع على خرائط "غوغل" وقد شُكّلت بإسم فلسطين.
يقول نضال:" استفزني تصرّف شركة غوغل، وكأّن العالم كلّه صار ضد القضيّة الفلسطينية" ويضيف:" إجراء غوغل المستفز لا يتلخص بحذف اسم فلسطين، بل بات البحث عن فلسطين في محرك غوغل، يظهر فلسطين فقط بأراضي الضفّة وغزّة وقاموا بتقليل عدد السكّان".
يشير نضال، إلى التفاعل الكبير مع التصميم من قبل نشطاء أوروبيين، وهو ما أعطاه دافعاً لانتاج شيئٍ أكبر وفق قوله، كما لفت إلى محاربة المحتوى الفلسطيني في مواقع التواصل الاجتماعي، مُرجعاً ذلك إلى قوّة تأثير الصورة على المتلقي، وهو ما تعرّض له أحد تصميماته التي نشرها سابقاً عبر تطبيق " انستغرام" حيث حُذفت صورة تُظهر ممارسات تكميم الأفواه من قبل الاحتلال بحق الفلسطينيين.
يطمح نضال التوبة الذي يعمل حاليّاً، كعامل مطبخ في أحد مطاعم مدينة غوسلار، إلى تطوير أدواته في مجال التصميم، وهو الذي مارسها كهواية تعلّم أساسياتها من أحد أصدقائه في لبنان، ويسعى إلى صقلها عبر دراستها أكاديميّاً.
ويعبّر لـ"بوابة اللاجئين الفلسطينيين" عن أمله في تحقيق مشروع يسعى إليه، وهو إقامة معرض في المدينة التي يسكن فيها، يذهب ريعه إلى دعم اللاجئين السوريين والفلسطينيين في مخيّمات اللجوء والنزوح، ويقول :" اشتريت جهاز كمبيوتر محمول مؤخّراً وهو ما سيساعدني على تطوير عملي".
يتحدّث نضال عن عمق تأثير التشجيع الذي تلقّاه، وكان دافعاً له لتطوير عمله وجعله أكثر دقّة، حيث تحدّثت عنه العديد من وسائل الإعلام العربيّة والعالميّة، ومن هنا أدرك حجم تأثير عمله وصداه، ويصرّ على الاستمرار به، بعيداً عن منطق المُتاجرة والربح المادي، ويختم معنا في هذا الصدد بقوله :" لا أريد المتاجرة بالموضوع، أو أن يكون مصدراً للربح بالنسبة لي، ورفضت الكثير من العروض لبيع الأعمال، حاولت فقط أن أتبرع بها، ولم أدخل في إطار البيع والربح".